هل ستوافق إسرائيل على التهدئة؟ د. عبد المجيد سويلم لعلكم لا تتوقعون (طبعاً) أن تكون الإجابة نعم أو لا، ولعلكم لا تستحسنون صيغة "اللعم" التي لا تفي بالغرض في بعض استعمالاتها الشائعة، ومع ذلك لا مفر من الاجابة عن السؤال بالصيغة التالية: نعم ستوافق إذا، أو لن توافق إلا. يذهب بعض المحللين - وخصوصاً الاجانب منهم وكذلك بعض المحللين الاسرائيليين وبعض المهتمين بهذا الشأن ومن ضمنهم المهتمون من أوساطنا - الى ان التوقف عن اطلاق (الصواريخ) بصورة نهائية وتامة يصلح كأرضية للتوصل الى نوع من التهدئة او الى ما يمكن اعتباره هدنة او هو بمثابة ذلك. ليس بمستطاعنا طبعاً ألا نوافق على ذلك من حيث المبدأ، على الاقل من زاوية صعوبة وربما استحالة موافقة اسرائيل على اي نوع من انواع التهدئة او الهدنة دون التوقف التام عن اطلاق الصواريخ. ولكن اسرائيل لن "تكتفي" بهذا فقط - على اهميته - بالنظر لمجمل الضغوط التي تتعرض لها الحكومة الاسرائيلية على مستوى الشارع عموماً وعلى مستوى التجاذبات والاستقطابات السياسية الداخلية على وجه الخصوص والتحديد، ذلك أن مثل هذا التوقف إن حصل لن "يحل" المشكلة الحقيقية التي تمثلها ظاهرة الصواريخ من زاوية ارتباط هذه الظاهرة بالبنية العسكرية المرشحة للتطور والتعاظم في قطاع غزة، ومن زاوية ما يمكن ان تشكله من "خطر" استراتيجي على الصعيد الأمني بالنسبة لإسرائيل. فعندما تتخذ الاوساط الأمنية والعسكرية الاسرائيلية قراراً بوزن الهدنة والتهدئة فإن هذا القرار يخضع اولاً وأخيراً لمعيار الرؤية الاستراتيجية وليس لمعيار اللحظة السياسية او الميزان الحزبي والجماهيري فقط. ومن هذه الزاوية بالذات وعلى وجه الدقة والتحديد سيعتبر الاسرائيليون ان اي اتفاق للتهدئة او الهدنة هو اتفاق "مهم" و"ضروري" بقدر ما "يضمن" لهم عدم تحول قطاع غزة الى "اقليم" قادر على تهديد الجنوب الاسرائيلي بما ينطوي عليه هذا الجنوب من اهمية عسكرية واقتصادية وسكانية حيث يعتبر النقب بكل قطاعاته مجالاً حيوياً مباشراً لمنطقة الوسط ومنطقة الشمال في اسرائيل. اسرائيل "لا تستطيع" وفق هذا المنظور ان توافق على أية تهدئة الا اذا بقي قطاع غزة رهينة على المستوى الاقتصادي وبحيث تتحكم اسرائيل بنقاط العبور والممرات منه وإليه وبحيث يظل في وسائل عيشه الرئيسة مرتبطاً بالاعتبارات الأمنية الاسرائيلية، أو الا اذا تحول الى منطقة خالية او "نظيفة" من الوسائل التي يمكن ان تتحول الى تهديد عسكري، او الا اذا عُهد الى جهة اخرى تولي مسؤولية الأمن فيها سواء أكانت هذه الجهة محلية أم عربية أم اقليمية أم حتى دولية، وسيظل المهم من وجهة النظر الاسرائيلية هو منع تحول القطاع الى منطقة تملك وسائل التهديد العسكري الجاد. لهذا بالذات فإن الطموح الاسرائىلي الحقيقي هو ابقاء قطاع غزة تحت رحمة اسرائيل المباشرة على المستوى المعيشي ومحاولة تدمير البنية العسكرية والأمنية الفلسطينية فيها ومنع هذه البنية من التطور الى مستويات جديدة، وهي تطمح الى ان يكون الدور المصري هنا هو الدور المكمل للاستراتيجية الاسرائيلية والمساعد لها، وإلقاء ما يمكن القاؤه من مسؤولية انسانية على الجانب المصري الشقيق. اذا تعذر ذلك فإن اسرائيل سترغم على الدخول الى قطاع غزة دون احتلاله كاملاً من أجل "التأكد" من عدم فعالية البنية العسكرية والأمنية الفلسطينية فيها، وستحاول قتل واعتقال المستويات السياسية والعسكرية والأمنية التي تعمل على بناء قاعدة وبنية لمقاومة طويلة الأمد او لبنية تحقق هدنة او توازناً ما ولا تلغي البنية العسكرية الفلسطينية ولا تمنعها من التطور "المطلوب". وما تطمح اليه اسرائيل وتعمل من اجل تحقيقه هو اغلاق كافة منافذ التسلح وقطع كل الشرايين المالية التي تصب في هذا الاتجاه والإبقاء على حالة الحصار وتشديدها على هذا الجانب بالذات، بحيث يتم موضوعياً ربط الخناق والحصار في ذهن المواطن الفلسطيني بالسعي من قبل الجانب الفلسطيني للتسلح او تطوير البنية العسكرية بعد أن تكون اسرائيل قد "أحكمت" الربط بين العمليات العسكرية في قطاع غزة واطلاق الصواريخ منها. في ضوء ذلك كله فإن الحديث عن التهدئة او الهدنة ليس اكثر من حديث عن حالة مؤقتة وعن مرحلة انتقالية وعن استراحة صغيرة تشبه الاستراحة الإعلانية، وهي استراحة تهدف اسرائيل من خلالها الى "اكتشاف" مدى "الإنهاك" الذي وصلت اليه حالة المقاومة وحالة الصواريخ في هذه المرحلة من أجل التحضير للمرحلة المقبلة والتي سيكون عنوانها مصادر التسلح وموارد التطوير العسكري والبنية الأمنية الخاصة بذلك لكي تلحقها مراحل جديدة تتصل بقتل المستويات السياسية التي تقف بصورة مباشرة وتدعم بشكل واضح وجلي التوجه نحو بناء بنية عسكرية وأمنية صلبة في القطاع. وفي هذه الأثناء ستدرس اسرائيل مدى جاهزية الجيش للمراحل المقبلة ومدى تأثير ذلك وترابط ذلك مع أية معارك اخرى على مستوى الاقليم ومدى تأثير "جبهة قطاع غزة" على الخطط الاسرائيلية وعلى التوجهات الاسرائيلية لاحتمالات الحرب الإقليمية او للحرب في أقاليم اخرى. وفي هذه الاثناء ايضاً ربما ان اسرائيل معنية بإطلاق سراح جنديها المعتقل لدى حركة حماس وربما انها معنية بإيهام حركة حماس أن هدنة او تهدئة ما ربما ستعزز نزعة الاعتدال لدى بعض اوساطها (اوساط حركة حماس) للقبول لاحقاً بالاشتراطات الاسرائيلية. ان اسرائيل لن تقبل بالتعامل مع قطاع غزة بأقل من "حريتها" التي تتعامل بها مع الضفة الغربية وهي ترى في كل تهدئة او هدنة او وقف لأعمال العنف مجرد فرصة لمنع الهجمات عليها بالقدر الممكن دون ان يعني ذلك من الناحية العملية التوقف عن "حق" اسرائيل بالملاحقة والمطاردة والاغتيالات والاعتقالات والتوغلات والإغلاقات، وبالاستناد للمنطق الذي تطرحه الفصائل المسلحة (وهو منطق صحيح) فإن اسرائيل تلاحق وتقتل وتتوغل وتعتقل في الضفة الغربية مع أن الصواريخ لا تطلق من الضفة، فلماذا ستقبل أن تتحول غزة الى قاعدة تهديد استراتيجي لها او الى خطر مباشر على النقب وعلى جنوب اسرائيل الا اذا كانت مرغمة على ذلك. اسرائيل ربما ليست جاهزة للمراحل المقبلة من خططها العسكرية المقبلة لقطاع غزة وربما ايضاً تحتاج الى مناورة هنا وأخرى هناك لإنهاء مرحلة التجهيز والتحضير، وربما انها قد وجدت في ضوء الاستخلاصات الاخيرة من "المحرقة" الاخيرة أن العمليات المقبلة ستكون مكلفة اكثر من المتوقع، لكن هذا كله شيء والتوهم بأن هدنة متوازنة او تهدئة متكافئة ستحدث او يتم تحضيرها او التحضير لها شيء آخر. ليس من مصلحتنا ابداً تسويق الغبار على أنه غيوم ملبدة وتبشر بالمطر الوفير وليس من مصلحتنا قراءة المناورات الاسرائيلية على انها انكفاء وهزيمة، تماماً كما انه ليس من مصلحتنا تسليح المقاومة وتحويلها الى منتج يشبه الوجبة السريعة، بدلاً من أن تكون محصولاً نأكل منه ونزرع منه لكي تستمر الحياة وتستمر القضية. عن صحيفة الايام الفلسطينية 13/3/2008