الهجوم على غزة بين معادلة الأمن والسياسة د. عبد المجيد سويلم لم تكن العملية التي تم تنفيذ مرحلتها الاولى (كما جاء على لسان القيادة الاسرائيلية) مجرد رد على "استمرار" اطلاق الصواريخ والأصح القول (المقذوفات البدائية) وانما جاء في سياق معادلة معقدة في اسرائيل اولاً، وفي اطار الرؤية الاسرائيلية للمعادلة الاقليمية وفي القلب منها معادلة الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي بما في ذلك المفاوضات ثانياً، وفي اطار التخطيط الاستراتيجي الاسرائيلي لتكريس الوقائع التي ستحقق لهذا التخطيط الاهداف الرئيسية المرجوة ثالثاً. الحكومة الاسرائيلية بعد تقرير فينوغراد ليست مهددة بالسقوط الا بقدر ما تتقدم العملية السلمية بخطوات جدية على الارض وإلا بقدر ما تكون هذه الخطوات مكوناً رئيسياً في "الحل" الدائم وإلا بقدر ما "تخرج" هذه الخطوات عن "الثوابت" الاسرائىلية للحل الدائم. هذا التهديد منوط بتنظيم وإعادة تنظيم جهة اليمين الاسرائيلي، وهي الجبهة الوحيدة التي يمكن ان تشكل تهديداً حقيقياً للحكومة الاسرائيلية بعد أن تحول تهديد اليسار الى مجرد اختلاف على بعض التفاصيل الثانوية وبعد ان تراجعت الفروقات (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) حتى وصلت الى التماهي والتطابق. كانت اسرائيل كما هو معروف قد "توقعت" الحرب الاهلية الفلسطينية بعد الانسحاب من غزة بعد ان فشلت كل مخططاتها السابقة حول هذه الحرب قبل خطوة الانسحاب الاحادية، وعندما نشب الاقتتال الفلسطيني بدأت تتبلور في اسرائيل "كاديما" ليس كمجرد مجموعة سياسية شارونية وانما كاتجاه سياسي واسع يهدف الى الفصل والانفصال والى الضم والتوسع والاستيطان عبر خلق الوقائع وتكريس الهيمنة وتغيير المرجعيات وأسس الحل وطرائقه. ومع استيلاء حركة حماس على مقاليد الامور في القطاع وبدء "انفصال" قطاع غزة عن الضفة الغربية شعرت اسرائيل بأن خطتها تحقق نجاحات كبيرة لجهة تشتيت الهوية والوطن والشعب والقضية، وشعرت اسرائيل ان بإمكانها "الآن" ان تحول قطاع غزة الى "مشجب" تعلق عليه الاسباب والذرائع التي تراها مناسبة لها، فأحياناً تستخدم اسرائيل "حالة القطاع" في مواجهة الشرعية الفلسطينية وأحياناً اخرى تستخدمها في مواجهة مصر، وفي احيان ثالثة لتبرير الحصار والقتل، وفي كل الاحيان شعرت اسرائيل ان ما حدث سيساعدها على فكفكة قضايا الحل النهائي وفصلها عن بعضها البعض وتجزئة كل قضية على حدة وتحويل كل قضية الى قضايا متفرعة وفرعية حتى لا يصار الى اعادة اللحمة الى البرنامج الوطني وما يمثله من اهداف وطنية. ان اسرائيل وقد استطاعت فعلاً لا قولاً فقط تشتيت الاهداف الوطنية وتفريعها لا يمكن ان تعود لخيار احتلال القطاع واعادة "توحيد" الفلسطينيين سواء عبر مقاومة الاحتلال او عبر انهاء سيطرة حماس على غزة الا اذا شعرت بأن الوضع في غزة كما هو عليه الآن وكما هو مرشح لأن يكون، سيشكل من الزاوية الأمنية الاستراتيجية خطراً اكبر من المكاسب التي تحققها اسرائيل من حالة غزة في الواقع الحالي. لو كان النقاش في الاوساط الأمنية الاسرائيلية قد توصل الى ان حالة غزة باتت تشكل خطراً استراتيجياً من الناحية الأمنية لما ترددت هذه الاوساط في اجتياح غزة واعادة احتلالها وتغيير الواقع فيها بأسرع ما يمكن وبأقسى ما يمكن ودون انتظار الذرائع او الحجج او المسوغات، ولو ان اسرائيل متأكدة من ان حالة غزة ليست اكثر من ظاهرة صوتية لأبقت عليها دون حاجة الى كل هذه الوحشية وهذه العدوانية ولأبقت الانقسام على ما هو عليه، لأن هذا الوضع هو وضع مثالي في ابتزاز كافة الاطراف الفلسطينية وابقاء الطرفين الرئيسيين في حالة بحث ولهاث دائمين حول نفسيهما، وقد قال احد الخبراء الاسرائيليين بعد انقلاب تموز ما مفاده ان اسرائيل بعد أحداث غزة قد حصلت على ما هو افضل مما لو كانت قد حضرت له في المختبر. الواقع ان اسرائيل هي في مرحلة نقاش حول "حالة غزة" فالبعض يراها حالة مثالية لتشتيت الوضع الفلسطيني والبعض الآخر يراها خطراً استراتيجياً ممكناً، ولهذا فإن الهجوم على غزة سيستمر وبأشكال متعددة ولكن مستمرة، وستحاول اسرائيل ان تجرب كل الاشكال وستحاول ان ترفع من مستوى العمليات من الاقتحامات الى الاغتيالات ومن القصف الى الاجتياحات المحدودة زمنياً ومكانياً حتى يتبين لها المدى الحقيقي والعمق الحقيقي لفعالية البنية العسكرية في غزة، وحينها ستكون قد ارهقت هذه البنية وشتتتها وحينها يمكنها ان تتخذ القرار "المناسب" إما بالإبقاء عليها عند حدود واضحة او انهائها عبر عملية عسكرية شاملة. ان هذا هو الذي تفكر فيه اسرائيل وهي لم تعد معنية بوقف اطلاق الصواريخ كما تدعي، وهي ليست معنية بالوصول الى تهدئة لا مع حركة حماس ولا مع السلطة الشرعية، ولم يعد ذلك يعنيها الا من زاوية ما تحققه هذه التهدئة من اهداف اسرائيلية جذرية وهي تطمح لتحويل قطاع غزة الى منطقة آمنة نسبياً لممارسة المطاردة الساخنة التي تمارسها في الضفة الغربية بعد أن اثبتت هذه التجربة لاسرائيل انها السياسة الوحيدة القادرة على "ضبط" المقاومة في الحدود الدنيا وتحييد فعاليتها الى ابعد الحدود الممكنة وقد جاء ت قرارات المجلس الوزاري المصغر امس، لتأكيد هذه السياسة واعطاء الجيش حرية الحركة وتفويضه بالعمل الميداني وفق المعطيات العملية. اسرائيل لا تعمل ضد طرف فلسطيني لصالح طرف اخر وهي لا تريد طرفاً قوياً وآخر ضعيفا، وانما تريد كل الاطراف الفلسطينية ضعيفة ومنهكة وواهنة لكي تستطيع تنفيذ سياساتها وليس سياسة اي طرف آخر. اسرائيل تعمل لحسابها فقط ولا تعمل لحساب احد، وهي تريد الجميع ان يعملوا لحسابها ان استطاعت، وان لم تستطع فهي تعمل لكي تكون المحصلة للصراع لحسابها دائما ، لهذا كله فان غزة على موعد مع العدوان ومع القتل ومع الاغتيالات ومع تشديد الحصار ومع الموت، الموت جوعا او قتلا، ويبقى لنا حرية الاختيار، ومن اراد ان يعتبر ذلك هو النصر فلينتصر كما يشاء ومن اراد ان يعتبر ذلك هو الهزيمة فليهزم كما يشاء. ومن يريد ان يغير كل هذه المعادلة البائسة فعليه ان يثبت ذلك بالملموس وليس بالكلام فقط. عن صحيفة الايام الفلسطينية 6/3/2008