تقرير فينوغراد.. "إسرائيل" مشروع حرب د. يوسف مكي معظم القراءات التي تناولت التقرير الذي صدر عن لجنة فينوغراد، حول الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على لبنان، قد تناولته من حيث هو اعتراف بهزيمة “إسرائيل". وذلك يبدو أمراً بديهياً، نتيجة اللغط والخلط الذي ساد الموقف العربي الرسمي، والانقسام الذي حصل في لبنان بعد الحرب مباشرة، بين القوى السياسية. لم يكن هناك مبرر لاحتدام الجدل حول مصداقية هزيمة الكيان الصهيوني. فإذا أخذنا الحرب باعتبارها، حواراً ساخناً بالسلاح، وأنها وسيلة لتحقيق هدف سياسي، في تلك الحالة كان القضاء على المقاومة اللبنانية، وإلحاق لبنان بمشروع الشرق الأوسط الجديد، كما عبرت عن ذلك في حينه وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس، فقد فشل هدف الحرب، وعجزت الحكومة “الإسرائيلية"، ومن خلفها القوى الدولية التي حرضت على الحرب عن تحقيق تلك المكتسبات. الخطير في التقرير، والذي حمل معنى متضمناً، هو التحريض على الحرب، لم يتم التركيز عليه، ومرت فقراته مرور الكرام. أجاب التقرير بوضوح في فقرته الثانية، عن أن الهدف من تشكيل اللجنة هو “الإحساس الشديد لدى الجمهور بالفاجعة وخيبة الأمل نتيجة المعركة وطريقة إدارتها". إن تقييم ما جرى يتيح الفرصة للتغيير والتحسين في مواضيع حيوية للأمن وازدهار الدولة والمجتمع في “إسرائيل". خيبة الأمل والفاجعة ليستا بسبب قرار الحرب، وإنما بنتائجه. كان الصهاينة يتوقعون كما في التجارب السابقة، حرباً خاطفة، تنتهي بنصر سريع، على أمل فرض المزيد من الإملاءات على العرب. وكانت النتائج تمكن المقاومة من الصمود والتعرض الميداني للقوات الغازية، وضرب العمق “الإسرائيلي" بالصواريخ.. وعشرات القتلى والجرحى، والفشل الذريع في التقدم بالقوات إلى مياه الليطاني. إن الهدف الحقيقي من تقييم الأخطاء الكارثية في حرب تموز، هو التهيؤ لحرب أخرى، يرى الذين أعدوا التقرير أن نتائجها ينبغي أن تكون مغايرة. وهكذا فهم يأملون أن يكون تقريرهم مفيداً، لكي “تعمل المحافل ذات الصلة على عجل لإصلاح وتغيير كل ما يفترضه ذلك". ليس ذلك فحسب بل إن الأمر يقتضي سرعة في التنفيذ، كما تشير الفقرة السادسة. إن هذه العجالة هي التي جعلت فريق العمل المناط به إصدار التقرير إلى تقديم موعد إصدار التقرير الجزئي الذي يركز على القرارات المتعلقة بشن المعركة. ومن أجل تدارك الأخطاء، تقترح لجنة فينوغراد أن تكون القرارات لشن المعركة العسكرية مبنية على دراسة “جملة الاحتمالات الكاملة، وعلى رأسها مسألة ما إذا كان من الصحيح مواصلة سياسة التجلد في الحدود الشمالية، أو إدراج خطوات سياسية مع خطوات عسكرية قبل حد التصعيد أو استعداد عسكري من دون خطوات عسكرية فورية، للإبقاء في يد “إسرائيل" كامل امكانات الرد على حدث الاختطاف". ويؤكد أنه: “كان هناك ضعف في التفكير الاستراتيجي، الذي يقتطع الرد على الحدث عن الصورة العامة والشاملة". هنا يطالب التقرير بتغيير جذري في السياسة العسكرية “الإسرائيلية"، خلافاً لما درجت عليه في الحروب السابقة. ويتناسى الذين صاغوه مسألة جوهرية في العقيدة الصهيونية، منذ تأسيس الكيان الغاصب، هي تلازم حروبه بما عرف بالحرب الوقائية، التي تعتمد على المفاجأة والسرعة. إن ذلك النوع من الحروب هو وحده الذي يتلاءم مع طبيعة الكيان الصهيوني، التي لا تحتمل حروب استنزاف، وخلق حقائق جديدة، على الأرض، في الجانب العربي بضمنها حالة الغليان الجماهيري والتحشد المساند، ضد مشاريع العدوان التي يتم وأدها باستمرار بسبب سرعة الأداء الصهيوني، وقدرته على تحقيق أهدافه العسكرية في مسرح الحرب. إن قراءة لجنة فينوغراد، قد ركزت على ما جرى من أخطاء في تلك المعارك، وتجاهلت بطبيعة الحال التطورات النوعية التي حدثت في الطرف المقابل، ولم يتحدث التقرير عن طبيعة حرب الشعب، التي كانت وبالاً باستمرار على الكيان الصهيوني. وحصدت نتائجها دماً في معركة الكرامة، وفي الصمود الأسطوري للمقاومين الفلسطينيين، في حصار على بيروت استمر أكثر من ثمانين يوماً، في صيف عام 1982م. إن هذا التجاهل يبدو أمراً متعمداً، لأنه يضيف رصيداً للخصم، ويضعه في ما يقترب من الندية مع الكيان الغاصب، وهو ما يجعل من صمود المشروع الصهيوني برمته، موضع شك وتساؤل. لقد عول تقرير اللجنة على أن ل"إسرائيل" وجيشها قدرة ردع وتفوق نوعي كافيين، من أجل منع إعلان الحرب الحقيقية عليها، ومن أجل إصدار مذكرة أليمة لمن يبدو وكأن الردع لا ينطبق عليه. لكنه تناسى أن هذه النتيجة، التي أصبح العقل الصهيوني مسكوناً بها منذ نكسة الخامس من حزيران، عام 1967م، لم تصمد طويلاً في معارك لاحقة. فقد كانت حرب عام ،1973 مفاجئة بالكامل للصهاينة. مفاجئة في القدرة على المناورة والخداع، ومفاجئة من حيث الفعل الإرادي، ومفاجئة أيضا من حيث الأداء والإبداع. وكان هناك صمود في بيروت وفي المخيمات الفلسطينية بالضفة الغربية.. لعل أبرزها صمود جنين. إنها إذن نفس لغة الغطرسة والقوة والتهاون بالخصم، حكمت سلوك الإدارة “الإسرائيلية" في حرب تموز، وبقيت حاضرة وبقوة في اللغة التي صيغ بها تقرير فينوغراد. ولعل مرد ذلك يكمن في الطريقة التي نشأ بها الكيان الصهيوني الغاصب. لقد أقيم الكيان الغاصب على أرض فلسطين، في ظل أوضاع دولية بالغة التعقيد بالنسبة للمصالح العربية. وكانت كل الأوراق المتاحة على الأرض تصب في مصلحة مشروعه. وقد أريد له أن يكون طليعة استيطانية أوروبية في وطننا العربي، تكون قاعدة متقدمة لرعاية مصالح القوى الخارجية. لكن هذا الكيان كان يفتقر منذ البداية إلى أهم عناصر تكوين الدول الحديثة. شيئان متفردان وقفا إلى جانبه، الأول كان الموقف الدولي المساند للمشروع، وغياب الوعي والتخطيط والإرادة من قبل أصحاب الحق الشرعيين. والثاني، هو قدرة أقطاب المشروع الصهيوني على حقن عصبية ماكرة، استطاعت أن تحشد يهود العالم حول اغتصاب فلسطين، تحت شعار أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. الدعم الدولي وارتباط المشروع الصهيوني استراتيجياً بذلك الدعم، والعصبية التي تحدث عنها العلامة العربي ابن خلدون كانت سر فتوة المشروع الصهيوني، وقدرته على إلحاق الأذى بالعرب. وقد كان سر استمرار هذه العصبية لفترة قاربت نصف قرن، هو شعور القادمين الجدد بأنهم غرباء عن الأرض، من جهة وأنهم يفتقرون إلى الوحدة والتجانس من جهة أخرى. فهناك في أعلى السلم الاجتماعي المستوطنون البيض، من أوروبا الشرقية، ويليهم اليهود، القادمون من البلدان العربية، من العراق واليمن ومصر والمغرب العربي، وبلدان أخرى غير عربية كإيران.. وفي أدنى السلم الاجتماعي يأتي اليهود السود الذين عرفوا بالفلاشا. ويعكس مفهوما الإشكناز والسفاردم واحدة من صور التمزق في المجتمع الصهيوني. هذا التمزق هو الذي جعل من الحرب عقيدة طاردة لتفتت المجتمع الصهيوني من الداخل، من خلال تصدير الأزمة بشكل مستمر إلى الخارج. وهكذا كان المشروع الصهيوني منذ بدايته، كما كررنا ذلك باستمرار، مشروع حرب. وهذه التركيبة هي التي فرضت ما عرف في الدوائر الصهيونية العسكرية بالحروب الوقائية. القراءة المعمقة لواقع الكيان الصهيوني في الداخل، تؤكد حتمية استمرار الحروب الوقائية، لأنها هي وحدها الضامن لتماسك مجتمع لا تربط أفراده أية صلة موضوعية، سوى أسطورة تعتمد على الميثولوجيا، بدلا عن العلم وحقائق التاريخ. وتقرير فينوغراد هو أحد تعابير مشروع الحرب “الإسرائيلي". على الطرف الآخر، الجبهة العربية، لم يحمل العرب مشروع الحرب الذي حمله الكيان الصهيوني، وكانت استجاباتهم، في الغالب، تأتي انفعالية وغير منسجمة مع ضخامة التحدي. فكانت النتيجة هزائم متواصلة أمام الخصم.. ونجاحات بدت مستمرة لمشاريع العدوان. نقاط أخرى غيبها المشروع، لعل أهمها تعامله مع قرار الحرب، بمعزل عن الاستراتيجية الأمريكية في تحقيق ما عرف بالشرق الأوسط الجديد أو الكبير. ودور تلك الاستراتيجية في مواصلة الحرب، والتي عبر عنها الموقف الأمريكي في مجلس الأمن الدولي للحيلولة دون صدور قرار أممي بوقف إطلاق النار، والتحريض على استمرار القتال.. وقضايا أخرى ذات علاقة علها تشكل محطات للمناقشة في أحاديث أخرى قادمة بإذن الله. عن صحيفة الخليج الاماراتية 7/2/2008