د حمدى شعيب منذ أيام قلائل، وبعد حضوري مؤتمر في الإسكندرية، وفي طريق عودتي إلى دمنهور؛ انزويت إلى أحد المساجد للصلاة، وبعد خروجي شاهدت إحدى الفلاحات المصريات الطيبات البسيطات؛ فأعجبني ما معها من خضار طازج وفاكهة تقر العين؛ فذكرتني بأرضي الطيبة، ومحاصيلها الطيبة؛ والتي لم أعد أراها أو أستطعمها هذه الأيام لفساد محاصيلها؛ بسبب مبيدات والي المسرطنة، ومن هرمونات حواريه المميتة.
وأثناء دفع حسابي لها؛ نظرت إليَّ بحزن وعلى وجهها سحابة من الكآبة، وقالت عبارة لخصت الحالة المصرية: تعرف إننا كلنا حزنانين على اللي حصل لفريقنا في السودان!؟.
فذهلت من اهتماماتها؛ رغم ما بها من ظروف بئيسة؛ اضطرتها للخروج للتكسب على الطرقات!؟. وواسيتها قائلاً: معلهش يا أم محمود؛ أرجوكِ أغلقي هذا الموضوع!؟.
أنهيت حواري معها؛ وكأنني أهرب من واقع، أو من كابوس هاجم حلمي المسكين، وسرق مني لحظات ولا أقول ساعات أو أيام استشعرت فيها أن أقداره سبحانه؛ أخيراً قد رحمت مصر والمصريين؛ ليسعدوا ولو للحظات أو لسويعات، ليهربوا أو لينسوا همومهم الكارثية العديدة والتي غطت كل المجالات!؟.
حتى صدق فينا قول الشاعر:
رماني القومُ بالأرزاءِ حتى ..... فؤادي في غشاءٍ من نبالِ فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ ..... تكسرت النصالُ على النصالِ فهان وما أبالي بالرزايا ..... لأني ما انتفعتُ بأن أبالي
سامحك الله يا أم محمود المخدوعة!؟
وفي طريقي تسارعت في مخيلتي صورة تلك الفلاحة المسكينة؛ التي أيقظت بداخلي ذلك الهم الكبير المتراكم بداخلي منذ صغري؛ والذي يصور صورة متكررة من مأساة حالم مسكين؛ حيث يقع في كل مرة ضحية لغيبوبة أوقعته فيها تلك الآلة الإعلامية الجبارة؛ فينسى أنه هو، وينسى كذلك أنهم هم!؟.
إنه الحالم المسكين المخدوع، و هم أولئك الكتيبة الشيطانية للتضليل والتزويق والتلفيق!؟. فهل كُتِب عليه أن يلدغ كل مرة؛ أو كل مرحلة من نفس الجحر، ومن نفس الحية؛ ثم لا يتعلم!؟.
سامحك الله يا أم محمود؛ فأنت تمثلين رمزاً ساذجاً للمخدوعين، ولا تحزني؛ فكلنا (في الهوا سوا)!؟.
ما أشبه الليلة بالبارحة ... واللعبة القاتلة!؟:
ثم تذكرت قصة الغلام والراهب التي رواها الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ ولكننا لم نفهم معنى رسالتها التربوية الخطيرة الأولى: "كان ملك فيمن قبلَكُم، وكان له ساحر". [رواه مسلم]
إذن هناك ساحر لكل ملك!؟. وهنالك ساحر لكل مرحلة!؟. يقود كتيبة سحرة الغيبوبة والتلميع والتقديس والتضليل والفرعنة حول مليكه!؟. فيزين أقوال وأفعال الملك؛ الذي لا يقول إلا حكماً، ولا يفعل إلا الصواب!؟.
ويبرر أخطاءه؛ فلا يُسأل عما يفعل!؟. ويحمي صورته؛ فيرفعه إلى درجة القديس أو الإله!؟. ويسحر الجماهير، ويخدع الدهماء، ويدغدغ مشاعر العوام، ويستخف الفاسقين: "فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ". [الزخرف54] إنها اللعبة الخطيرة والمميتة؛ (لعبة الملك والساحر والجماهير)!؟.
صمام أمان اللعبة!؟:
ولكن هذه اللعبة القاتلة لايدعها الله عز وجل بلا بوصلة تضبطها وتنظمها!؟.
والذي يمثلها شخصية الغلام، العاقل والواعد، الذي يحمل فكر وثقافة معلمه وقدوته الراهب؛ والذي يفهم قواعد اللعبة ويستطيع التدخل بفاعلية لضبطها، أو وقفها أو تصحيحها؛ لتسير مع الحق بإرادة الحق!؟. ويمثله في كل مرحلة فئة العلماء الربانيون، والمصلحون، وحاملو مشاعل الخير والتوجيه!؟. كما قال على رضي الله عنه: (الناس ثلاث؛ عالمُ رباني، ومتعلم يبغي النجاة، وهمجٌ رعاع يتبعون كل ناعق)!؟.
مسلسل الخداع ... وحلم الستينيات!؟:
كل هذه الخواطر تكالبت على رأسي؛ فتذكرت الحلقة الأولي من مسلسل الخداع؛ والجولة الأولى من اللعبة المميتة؛ أو من عندما ولد جيلنا في أحضان الحلم الناصري، وخدعونا بكاريزما الزعيم، ومغامرات الزعيم، وأوهام الزعيم، و...!؟. وتلقفت عقولنا البكر الحالمة المسكينة؛ تلك الكلمات الحماسية، وتلك الصيحات المخدرة، وتلك التعليقات المنومة، والأمنيات المعسولة؛ التي تولى كبرها ذلك الساحر الخطير (أحمد سعيد)!؟.
وارتفعنا بحلمنا فوق مستوى البشر؛ ثم استيقظنا على هزيمة مدوية؛ ليست لفريقنا القومي فقط، أو لمصر فقط، بل لأمتنا كلها!؟. وسُرِق منا الحلم؟!.
الهزيمة يسحرونها نصراً!؟:
ثم أدخلونا في حلمٍ أخطر؛ وهو أن الهزيمة مجرد نكسة، وأن هدف يهود لم يتحقق؛ فإسقاط مصر المسكينة ليست في اعتبارهم، وأن انكسار الأمة لا يهمهم؛ لأنهم أرادوا نهاية الزعيم، ولكن الزعيم باقٍ على عرشه؛ فأنتم إذن المنتصرون، ولا خوف عليكم ولا تحزنون!؟.
ونسينا كل شيء وتشبثنا بالزعيم؛ ولعب بنا ساحره (هيكل)؛ الذي لم يزل يلعب بنا، ويمارس سحره!؟.
حتى الهروب ... يسحرونه ويزيفونه!؟:
ثم جاءت الطامة عندما فوجئنا بهروب الزعيم، في تمثيلية بارعة، ليعلن تنحيه!؟. واستشعرنا أنهم استخفوا بنا؛ حتى لم يتركونا ننعم بالحلم المزيف، والنصر المغشوش، واستشعرنا أن القائد يتركنا في السفينة؛ لنصارع أمواج الهزيمة وحدنا، وأراد القفز إلى البحر!؟.
وتمسكنا بحلمنا المزيف؛ وخرجنا نولول في الشوارع، ورفضنا هذا الهروب سواء ولولة باختيارنا أو قادونا إليها بخبث مدروس، ودهاء ممنهج !؟.
فهل كنا نتمسك بكرامتنا المهدرة، ونرفض الانكسار أم بزعيمنا المهزوم المنتهي عمره الافتراضي؟!. حسبنا الله ونعم الوكيل في سحرته وعلى رأسهم هذا ال (هيكل)!؟. فقد حولوا هذا الهروب إلى شجاعة!؟. وتحول سقوط الزعيم إلى صعود وخلود ومنهج!؟.
حتى صغار السحرة حولوا ساحرهم إلى رمز وأضفوا عليه لقب (الأستاذ)!؟. وعشنا من يومها في مسلسل الخداع، والسقوط من مرحلة إلى أخرى، حتى يومنا هذا!؟. وسئمت معه الأحلام، وسئمت السحرة وكلامهم، وكتاباتهم، ولم يعنينني سحرهم المكرر!؟.
ولدغت للمرة ال...!؟:
وذات يوم من أيام نوفمبر 2005م؛ نسيت نفسي، ودخلت تجربة حلم دامي؛ سجلته بمقال دامع يومها بعنوان (ليلة القبض على حلم!؟).
وكان أقسى ما سطرته بدمي فيه: (شعورٌ مريرٌ؛ أن ترى حلمك الكبير الوردي، يذوب من بين يديك؛ كما تذوب كرات الثلج أمام عينيك، فتقف عاجزاً، ولا تملك لها شيئاً!.
حسرة قلبية عارمةٌ؛ أن ترى يوماً من أيام حياتك القصيرة والغالية؛ يُختتم بنهاية سوداء درامية؛ كتراجيديا إغريقية مأساوية!، رغم بداياته البيضاء؛ بلون صفاء قلوب المؤمنين!؟.
إحباطٌ شائهٌ كالحٌ؛ أن تفاجأ بأنك رغم بدايات الفجر المشرقة المفعمة بحب الخير والحرية والعدل للجميع؛ قد سُرِقْتُ وخُدِعْتُ واُهِنْتُ!!!.
2-ولقد خُدِعْتُُ؛ كنت ضحية خديعة، منمقة، ومزينة بأجمل وأحلى الكلمات والبيانات، حيث أفهموني بأنني مواطن حر، يقرر ويختار ما يشاء؛ ثم يترك الحكم بعدها للقضاء؛ الذي أشعرني وجوده معى بعد الله تعالى وبأنه يحرسني ويحرس حلمي ويحرس قراري ويحرس اختياري، بالثقة والأمل والطمأنينة!!.
3-ولقد اُهِنْتُ؛ وكنت مسرحاً عملياً كبيراً ترتع وتلعب فيه الإهانة؛ الإهانات المادية والمعنوية في هذا اليوم الغريب؛ فهو فعلاً يوماً من أيام الله التي يجب أن يسجلها الجميع، حتى وإن اختلفت الرؤى والأحكام ليحفظها التاريخ؛ ليضعها في رصيد ذاكرة أمتنا؛ ليتذكرها الجميع ويستفيد منها اللاحقون من السابقين!.
فلقد شارك فيها الجميع؛ وتواطئوا على حلمنا، وعلى قرارنا وعلى اختيارنا، وعلى حريتنا؛ فجمعوا كيدهم وأتوْا صفاً، وظنوا أن الفلاح كما قال فرعون لمن استعلى على عباد الله!).
وقبضوا على حلمي المسكين مع أبناء دمنهور في المهزلة الشهيرة بالسقوط الشريف للدكتور جمال حشمت والصعود المزيف للدكتور الفقي!؟.
حلم صمود بغداد الرشيد!؟:
وتتبعوا معي مسلسل الخداع، وتأملوا في حلقة أو كل مرحلة لعبة الملك والساحر والجماهير!؟.
وتذكروا كيف ارتفعنا بأحلامنا العربية القومية والإسلامية المسكينة مع هذا الساحر (الصحاف) بمشاعر الأمة؛ فقال: لقد حبسنا ودفنا الأمريكان في دباباتهم؟.
ثم صحونا على مأساة سقوط ودمار بغداد الرشيد؟!.
ورأينا الزعيم المهيب يخرج من مهربه تحت الأرض ليعدموه !؟.
ثم شاهدنا صمود شامخ لغزة وأهلها، وحلمنا (الحلم العربي) والإسلامي؛ بل والقومي؛ ثم صحونا على هذا التواطؤ المهين من الملوك وتبجح سحرتهم؛ وهم يصمتون أمام حصار ودمار غزة بأيدي أحبابهم اليهود!؟.
لقد تركناها للذئاب؛ بل ووثقناها لينعموا بلحمها؟!.
وما زالوا، وما زلنا!؟.
حلم تخليد الخضيري!؟:
ومنذ شهور قليلة حلمنا حلماً مسكيناً؛ بأن نرى المستشارمحمود الخضيري ود. نهى الزيني ود. محمد عمارة والمستشار البشري ووالدكتور محمد سليم العوا وزويل على شاشات فضائياتنا العربية؛ كما أتحفونا وطاردونا ليل نهار ومن فضائية إلى أخرى بشموخ العندليب، وطهارة فاروق، وثبات ليلى وعظمة مجنونها، وخلود أسمهان، وإبداع (إييييييه)، والتجديد في أدبيات (الحنطرة والتحنطر)!!!!؟؟؟؟.
أو أن نراهم على خشبات مسارحنا؛ أسوة بالخالدة (رجل لكل العصور)!؟. ولكنه الحلم المسكين؛ الذي أصبح مستحيلاً؛ بل كابوساًً؛ على أيدي سحرة وملوك مرحلتنا المسكينة!؟.
حلم أردوغان!؟:
ثم نسينا أنفسنا وحلمنا بأن نرى مسئولينا يؤمون الناس في الصلاة ك رجب طيب أردوغان، ويقفوا مع الأزمات برجولة وشموخ أردوغان، ويرتفعوا بمواطنيهم وبأمتهم إلى آفاق من الرخاء والعزة كأردوغان؛ ثم صحونا على واقع أليم وهو أن ملوكنا أحقر من أن يرتقوا بنا وبأنفسهم مثل هذا الرجل العجيب، والأدهى أن سحرتنا لا يرون إلا مايراه ملوكهم؛ مصداقاً للقاعدة الفرعونية: "ما أريكم إلا ما أرى". [غافر 29].
جيل الأحلام المسروقة ... لن ينسحب!؟:
ترى هل مطلوب منا ألا نحلم؟!.
ترى هل تميز جيلنا بعدة علامات مؤلمة، ومميزات دامية، وخصائص كارثية؛ وهي أنه جيل المحاصيل المدمرة، وجيل سقوط الآلهة، وجيل تحطم الرموز؟!.
أم أنه جيل حُكِمَ عليه أنه جيل الأحلام المسروقة؟!.
ورغم كل هذا؛ فلن نيأس، وسنتحداهم وسنظل نحلم ونحلم، حتى يتعرى هؤلاء الملوك، ويفتضح سحرتهم؛ فنحن ورثة هذا الغلام المصلح الإيجابي؛ الذي تدخل ليصحح قواعد اللعبة لتسير مع الحق!؟.
وهي لعبة لن نكون نحن المنسحبين منها، ولن نكون ضلع المثلث الخالد؛ في ثلاثية خالدة؛ يسمونها معركة العض على الأصابع، وتكسير العظام؛ إنها (لعبة الملك والساحر والجماهير)!؟.
مع تحيات الحالم المسكين.
* كاتب من مصر استشاري أطفال وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية E-Mail: [email protected]