هل ترضى أميركا بثورة الشعوب العربية على حكامها ؟ كيف تنظر أميركا للحراك الشعبي العربي ؟
*جمال جابر الملاح
ها هو عام 2011 يستهل ولادته الجديدة بحدث جليل في المنطقة العربية، كان المغرب العربي، وتحديداً تونس هو مفجر المفآجات "بثورة الياسمين"، التي ستغير بالتأكيد من طبيعة وشكل نظم الدول العربية في التعامل مع شعوبها.
مسئولو دول عربية علقوا على إمكانية انتقال ثورة الشعب التونسي على نظامه المستبد، بردود عنيفة تثبت أن بعض مسئولي تلك النظم لم تستوعب بعد ما حدث حتى الآن .
فها هو العقيد الليبي معمر القذافي يعلن عن تألمه لما حدث في تونس، وطالب الشعب التونسي الانتظار وعدم التعجل في الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي ، الذي وصفه بأنه "أفضل" شخص يحكم تونس"، معتبرا أن الأخير "ما زال رئيسا شرعيا" لتونس.
تبدو تصريحات القذافي بأنها تصريحات خرجت من شخص لم يستوعب بعد صدمة "ثورة الياسمين" الشعبية التونسية، هو يدرك خطورة أن تخرج تلك الثورة من بلد عربي، وتحديداً تونس، تلك الجارة الشرقية، التي يعتبر وضعها الاقتصادي والمعيشي مقارنه بليبيا أكثر نمواً وتطوراً.
طالب القذافي الشعب التونسي بتأجيل الثورة والصبر على الحكم الديكتاتور المستبد ثلاث سنوات أخرى، ونسى أن حركته المسماة بثورة "الفاتح من سبتمبر" في ستينيات القرن الماضي جاءت بحركة مسلحة، وليست شعبية، أورثته حكم ليبيا ذات النظام الجماهيري مدة جاوزت أربعة عقود، ليكون بذلك أكثر حاكم عربي استمر في الحكم.
وزير الخارجية المصري كان أكثر حدة في رفضه لمخاوف القادة العرب من تأثر دول عربية بالأوضاع في تونس واصفاً تلك المخاوف بأنها "كلام فارغ" !.
ولكن مهما أبى من أبى من الحكام والمسئولين العرب ستكون "الثورة التونسية" ملهمة للشعوب العربية المقهورة تحت الحكم الاستبدادي الذي عفي عليه الزمن.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا : كيف يمكننا تصنيف ثورة الياسمين التونسية؟ .
هل تدخل الثورة التونسية في إطار مفهوم " الفوضى الخلاقة"، الذي ابتدعته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندليزا رايس عام 2005؟.
ثم كيف يمكن أن نقرأ دور أميركا من الثورة التونسية؟
وهل ترضى الولاياتالمتحدة الأميركية بتكرار مثل تلك الثورات في نظم عربية مستبدة أخرى، حليفة لسياستها في المنطقة ؟
هل أعدت الولاياتالمتحدة لسيناريوهات المرحلة المقبلة في الأقطار العربية في حالة تكرار "الثورة التونسية"؟
وهل تدخل مؤشرات الثورات والاضطرابات التي تحدث في المنطقة العربية، في إطار الشرق الأوسط الكبير؟
صحيح أن التصريحات الرسمية القادمة من واشنطن تثمّن ثورة الشعب التونسي على نظام بن علي، وصحيح أيضاً أن الرئيس باراك أوباما أشاد ب"شجاعة وكرامة" الشعب التونسي، ودعا إلى إجراء انتخابات نزيهة وحرة عقب مغادرة بن علي البلاد.
إلا أن ما وراء ستار تلك التصريحات الدبلوماسية الأميركية من خفايا يؤكد أن الولاياتالمتحدة الأميركية لم تكن راضية عن تلك الثورة، أو بالأحرى بالطريقة التي حدثت بها، خوفاً على مصالحها في تونس.
فها هي التقارير القادمة من تونس توضح أن رئيس الأركان التونسي السيد رشيد عمار تلقى تعليمات أميركية بالاستيلاء على السلطة قبيل مغادرة بن على البلاد، وهو ما جعل الرئيس المتنحى يسرع في إقالة عمار قبيل هروبه من البلاد.
الغريب في الأمر أن تسريبات الدبلوماسية الأمريكية التي سربها موقع "ويكليكس" مؤخراً وكشفت عن أن محيط عائلة بني علي أصبح كجماعات المافيا في الفساد ، مما كان له الدور الكبير في تعجل الشعب التونسي في الانقلاب على نظام بن علي.
التسريبات الدبلوماسية الأميركية نفسها تفسر أسباب التخوف الأميركي "المستتر" من ثورة الياسمين الشعبية التونسية، فقد أظهرت البرقيات السرية الأميركية في تونس ازدواجية وتناقضا شديدين في السياسة الأميركية حيال الرئيس زين العابدين بن علي.
ففي الوقت الذي سلطت فيه البرقيات المسربة الضوء على نواحي الفساد المستشري في محيط عائلة بن على في كافه أنحاء البلاد ، إلا أنها أشادت بنهج زين العابدين وتعاونه مع الإدارة الأميركية في أسلوبه المتشدد تجاه الإسلاميين في البلاد وسيطرته بيد من حديد على ما اسمتهم ب "المتطرفين" .
حتى ولو كان ذلك على حساب حرية الشعب التونسي، وهنا يكمن سر التخوف الأميركي من الثورة التونسية، وما قد يترتب عنها من ثورات في عديد دول عربية.
ومن هنا يمكننا القول أيضاً بأن ثورة تونس لا تدخل في إطار مفهوم "الفوضى الأميركية الخلاقة" ، فالفوضى الخلاقة طبقاً لصقور الإدارة الأمريكية، هي تلك الأحداث الدراماتيكية، المرتبة لها بإتقان، في أقطار الوطن العربي، وبعض دول محيطه.
من أجل إنشاء شرق أوسط جديد اي "الشرق الأوسط الكبير" الذي يتم فيه تفتيت دول المنطقة غلي دويلات علي اسس إثنية وعرقية ومذهبية بما يضمن مصالح الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل.
واستطاعت بالفعل الإدارتان الأميركيتان السابقة والحلية تنفيذ مخطط الفوضى الخلاقة في عدد من الدول العربية وبعض دول المحيط، كالعراق واليمن، والسودان ولبنان، وأفغانستان وباكستان.
أما ثورة الياسمين التونسية فنتائجها لم تكن (حتى الآن) في صالح الولاياتالمتحدة الأميركية ولا حتى ضدها ، إلا أنه بالتأكيد ستكون لتلك الثورة تبعات قوية ومدمرة على أحد أهم حلفاء أميركا في المنطقة، وهي إسرائيل .
التي تتخوف من أن تجلب الثورة الشعبية التونسية نظام حكم جديد يكون معاديا لها كما جرى مع موريتانيا، وتحويل النظر إلى إسرائيل واعتبارها عدوا وليس دولة صديقة، خصوصا أن نظام بن علي كان يميل نحو الاعتدال حيال الكيان الصهيوني.
ويعتبر بن علي من أهم الرؤساء والأنظمة العربية المؤيدة سراً لسياسة إسرائيل في المنطقة، كما شهد عهد الرئيس التونسي السابق ازدهارا في السياحة الإسرائيلية لتونس.
وبحسب "كلود سينبون" مؤرخ مجموعة يهود تونس كان هناك "ما لا يقل عن ثمانية آلاف إسرائيلي يزورون تونس كل سنة، وغالبا ما يكون هناك بينهم مسئولون".
مسئولو الكيان الصهيوني لم يخفوا مخاوفهم من صعود الإسلاميين في تونس واحتمال انتقال عدوى الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت ببن علي إلى دول عربية أخرى في المنطقة.
فها هو سيلفان شالوم، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي يعرب عن تخوفه الكبير من أن تعود "الحركات الإسلامية التي كانت تعتبر حتى الآن خارجة عن القانون" بقوة إلى تونس.
تشير الثورة التونسية إلى أن منطقتنا العربية بدأت مرحلة جديدة، التغيير هو عنوانها، من أجل إنشاء عالم عربي ديمقراطي، يحترم ويحفظ آدمية وحرية الإنسان، لا تحركه مصالح دول بعينها.
فقد فتحت ثورة الياسمين التونسية الباب أمام شعوب عربية أخرى مقهورة، وها هي سيناريو "بوعزيزي" التونسي يطل علينا في نسخ عربية جديدة، ففي الجزائر حيث يبدو السيناريو في طور التنفيذ على أرض الواقع.
وأيضاً بدأ التحضير لسيناريوهات مشابهة، في دول عربية أخرى كالمغرب، واليمن، والسودان، والمملكة الأردنية الهاشمية، وإن كانت أقل حدة، إلا أنه يتوقع لها الانتشار والاتساع.
ولكن في مقابل تلك الثورات العربية الشعبية "الخلاقة" يسير بالتوازي أيضاً مخطط "الفوضى الخلاقة"، ذلك المخطط، الذي يتم تنفيذه بإتقان من قبل أيدي وجهات خارجية، في عدد كبير من الدول العربية، وصل الآن إلى أهم محطاته، وهي مصر.
التي تظل عامود ارتكاز العالم العربي رغم خفوت دورها ، ترُى أي المخططات أسرع في التنفيذ، ومن فيهما سينال "الجائزة الكبرى، مخطط الإرادة الشعبية أم مخطط الفوضى الخلاقة؟
الشارع المصري، بجميع اتجاهاته وطوائفه، بسياسييه وعامته، يبدو في حالة من الحذر والترقب، إلا أن المستقبل يظل غامضاً لا ملامح له.