الشوارعيزم ولغة الصحافة! د. عمرو عبدالسميع من أين بدأت الحكاية؟! سؤال ضاغط محير قادتني إليه مجددا الحالة المهينة المزرية التي وصلت إليها جرائد هذه الأيام النكد, والتي تدخل من دون مراء ضمن نطاق الشوارعيزم أو تغليب الفكر والثقافة السائدين في الشوارع المصرية, اللحظة الراهنة, علي الأخلاق والقانون والأعراف والأصول( وأعني بذلك الفكر وتلك الثقافة الاستقواء علي الناس والمجتمع من جانب كتائب بربرية من المتنفذين والمتمولين وأصحاب العضلات وإرهابيي الصوت والقلم). وعلي عتبات تجلي إرهاب الصوت والقلم لابد أن تكون لنا وقفة. بداية لايمكن تصور أن ممارسات بعض الصحف والكتبة في مصر هي إلهام خيم علي رؤوس أصحابه بغتة ووحي تجاوبوا مع ندائه فجأة وكأنه ظاهرة روحية غامضة لم تسبقها ممهدات أو مقدمات. وبذلك المعني رحت أحاول البحث والفهم, فعمدت إلي مفاضلات بين خيارات تمثل مجموعة من المداخل للظاهرة, أحدها هو( التحليل الشخصي) الذي يرتبط بنزوع بعض الأفراد إلي البلطجة علي الناس وترويع المجتمع لأنهم يجدون في ذلك النزوع تحققهم وتغلبهم علي هشاشتهم الداخلية وإحساسهم بامتلاك القوة, والمقدرة علي استخدامها بحرية من دون حسيب أو رقيب, أو يستطيعون عبره وضع الخطوط تحت ذواتهم لتأكيد الحضور, أو يفرضون قانون وثقافة الابتزاز, أو يفرغون طاقة مسمومة للشعور بالكراهية والمرارة إزاء رهط من الناس أو أقرانهم الذين بزوهم من الشعور أو تفوقوا عليهم منتقمين لشعور طويل الأمد بالعجز تلبسهم إزاء أولئك الموهوبين! وفكرت في مدخل( سياسي/ ثقافي/ اجتماعي) يري في مرحلة السيولة المجتمعية الحالية سببا للظاهرة حاول فيه كل قادر علي ممارسة القوة أو العنف أو الإرهاب( حتي لو كان بالكلمة المنطوقة أو المطبوعة) أن يفرض باسم تلك القوة علي المجتمع مايحقق له إرضاء وارتياحا علي نحو أو آخر, أو كان ذلك المسلك متناغما متماشيا مع مصالح ورغبات وأجندات محلية تخدم مصالح طبقة أو زمرة أو عصبة( قوامها متمولون أو متطرفون متأسلمون أو عملاء أو فاسدون مفسدون مهما غمطت أو تغبشت وتضببت علاقة أيهم بحدود الشرعية أو المشروعية), أو أجندات إقليمية وكونية تسعي إلي تنفيذ مصالح دول ارتأت أن تقاسم مصر حضورها أو دورها, أو تحجم تأثيرها أو تشغلها بالانكفاء علي أمورها, أو تجهض مبكرا أية احتمالات مستقبلية لفكرة تتبناها, أو لمشروع تتزعمه. إلي أن وضعت يدي علي مدخل ربما يكون الأكثر قربا من الصواب والرجحان, إل وهو مدخل( اللغة)!! إذ وقر في يقيني أن بدء إيغال فكر وثقافة الشوارعيزم في الساحة الصحفية المصرية( جرائد وكتبة) جاء مع انهيار اللغة وإهانتها, وممارسات بعض نشطاء الجهل الرشيق والسفالة الأنيقة لهذه المهنة/ الشهيدة, وعلي نحو أدي إلي استشراء روح شوارعي كاسح في الأداء المهني الصحفي, ومن ثم فربما كانت الصحافة هي الحاضن الأول لفيروس الثقافة الشوارعية, وقد انتقلت منه العدوي إلي سائر وسائل الإعلام, فضلا عن المجتمع كله. وأذكر أن الأستاذ سلامة أحمد سلامة, سطر في بواكير ظهور عموده( من قريب) مايتحدث فيه عن خطورة تسلل اللغة العامية إلي الصحافة المصرية. وبالذات في مادة الرياضة.. وأظنه في ذلك نبه بحساسية ومبكرا إلي مخاطر ذلك الترهل الذي ساد بعد ذلك مجافيا مايسمي أسلوب الصحيفةstyle. ومدرستها( ما إذا كانت محافظة أو شعبية), وطبيعتها( ما إذا كانت قومية أو إقليمية أو محلية أو دولية). فالخروج علي الأطر والأشكال التي تحددها مؤسسات الإعلام لنفسها, ويأتي مشروعها المهني في سياقاتها, إنما هو تعبير عن رغبة في هدم تقاليدها وأعرافها المهنية عن قصد وتدبر وإحلال ثقافة جديدة مكانها تمثل مستوي رهط ممن هبطوا علي تلك الصحف مناصبين العداء لكل مايعجزون عن فهمه أو ممارسته, كارهين له ومفعمين بالغيظ والموجدة!. ممرورين من هيبة المثقف, أو قيم الفكر والعلم, طارحين أنفسهم كبديل مهني وسياسي, في لحظة سبعيناتية قائمة وقع فيها التصادم بين النظام والمثقفين, ومقدمين ذواتهم إلي أجهزة أمنية وسياسية باعتبارهم طلائع لتأديب المثقفين وتكديرهم, والإجهاز علي حضور وتأثير كل مفردات خطابهم( غير المفهوم والمقرف!), وإحراق وثائقهم باهانتها علي الملأ والسخرية منها, والاجتراء علي رموز الفكر والكتاب وممارسة قلة الأدب والحياء في مواجهتهم كتمرين يومي, والحديث إلي الناس وملاغاتهم بما يبهجهم, ويقيلهم من عناء التفكير, أو اتخاذ مواقف من الحياة بناء علي ذلك التفكير. أطاحت أعاصير الجهل والغوغائية تقاليد رواسي لمؤسسات صحفية كبري, وساعد علي ذلك أن قيادات تلك المؤسسات( زمن أزمة السبعينيات وماتلاها) كانت ذات أولويات لاعلاقة لها بالثقافة المهنية وانعكاساتها علي المجتمع, إذ كانت أولوياتها انتخابية ونقابية, وشخصية, فضلا عن طموحات التربح والاستحواذ. وساعد علي ذلك أيضا انهيار قدرة حراس المهنة الحقيقيين علي فرض بنود عقائدهم وثقافاتهم المهنية, حين صاروا من المستضعفين في مؤسساتهم وفي البلد كله, تعلو حضورهم مشاعر الخوف والتقوقع وقلة الحيلة! وكان ماجري..ظلت اللغة تنحدر من درك إلي أسفل منه, والتحم مشروع السقوط اللغوي للصحافة بمشاريع شقيقة ونظيرة في مجالات الغناء والمسرح والسينما أو الأدب, والعمل المهني, والأكاديمي. لم نعد نري بعد تلك الوثائق البلاغية الرفيعة والرائعة في صوغ أحكام القضاء أو خطابات العمل بالمصالح والهيئات الحكومية, أو الأوراق والنصوص الرسمية. لم نعد نجد بعد في حديث أساتذة الجامعات تلك المقدرة الملهمة علي بناءات لغوية محترمة ومتماسكة, تعكس بدقة أفكار أصحابها, لتطرحها مادة لحوار عقلي أو لقياس منطقي عند الطلاب. بات كل شيء بالتقريب, وسادت ثقافة الحركرك التي تتكلم عن أن اللغة السائدة استوفت( بعض) القواعد, وأن شيئا في نهاية المطاف أفضل من لاشيء! والأخطر في هذا المقام أن اللغة البديلة, الغوغائية أو الشوارعية, هي بطبيعتها غير قابلة لأن يتم تحميلها بمضامين وأفكار كبري.. إذ يظل اللفظ الساذج غير قادر بحكم التعريف وبحكم اختياره منذ اللحظة الأولي للجمهور الذي يخاطبه علي حمل فكر يجاوز سذاجته وانحطاطه! سقطت اللغة, وانحطت في الصحافة, فأمسكت بتلابيب المضمون متشبثة, وجذبته معها إلي أسفل سافلين. والمدهش أن بعض نجوم, ورموز, ورواد هذا الانحطاط اللغوي الصحفي الذي بدأ تاريخيا في المواد الصحفية الرياضية حاولوا( التنظير) لعملياتهم التخريبية الميدانية خلف خطوط المهنة, وعبورا فوق رؤوس حراس بواباتها, فعمدوا إلي خلق تيار بين الناس يعادي ما أسموه( الكلام الكبير) الذي يتلفظ به أفنديات المثقفين, واحتفلوا( بالكلام الصغير) الذي صار معجما وثيقة يحتضن مفردات الغوغائية والجهالة وصولا إلي السفالة!! بدا أولتك بكلامهم( الصغير), ومناصبتهم العداء للكلام( الكبير) وقد شارفوا علي اختراع جنس أدبي جديد يلائم مستويات مبدعيه, ومخترعيه علميا ومهنيا وثقافيا, و قبل ذلك كله اجتماعيا, وكان اختراع ذلك الجنس وإشاعته, وإذاعته وإفشاؤه هو المقدمات التي استبقت ما وصلنا إليه في اللحظة الراهنة. استدعت طبقة الجهلاء وشذاذ الافاق, ولصوص المال العام, ونجوم ورموز شركات توظيف الأموال وأباطرة الإرهاب العضلي والصوتي والمطبوع, وأعداء الثقافة والمثقفين أسوأ ما في التراث السلوكي والتعبيري تاريخيا وجعلت منه الخطاب الأكثر ذيوعا في صحافة البلد, فأسلمتنا إلي مانحن فيه, وفرضت ذلك الخطاب أحيانا علي العمل النقابي, لا بل روجته وسوقته في البلد بأسره. فإذا أردنا المواجهة بحق وحقيق فإن علينا( ابتداء) تعليم الصحفيين احترام اللغة, والتزام قواعدها موقنين علي مستوي الاستخدام الوظيفي والمهني الميداني أن الأناقة ستفضي بنا إلي الاحتشام, وأن البلاغة ستؤدي بنا إلي التوازن. (الاحتشام) و( التوازن).. هما بالضبط مانحتاج إليه الآن في الساحة الصحفية المصرية, كيما نواجه تجليا آخر للشوارعيزم!! عن صحيفة الاهرام المصرية 2/10/2007