الأهرام:19/2/2008 نظرية الشوارعيزم الاجتماعية والثقافية ومن ثم السياسية, التي أسستها هنا وأراكم معطياتها وإثبات فروضها منذ شهور هي بيقين تتسع لمشهد الحياة كله, وتنطبق عليه باستخدام تعبير الرياضيات الشهير تمام الانطباق. هي في أبسط تعريفاتها وصف للبلد وما يعتريه من عوارض, وصورة للناس وما يحوطهم من ظواهر.. وفي إطارها تتوالي البراهين علي العصف بالقانون, والأعراف, والأخلاق, والجمال, وحدود الالتزام الوطني من جانب مجموعة الإداريين المتنفذين, وعصبة رجال الأعمال المتمولين, وزمرة إرهابيي الصوت والقلم الإعلاميين, مغلبين القيم السائدة في الشارع, اللحظة الراهنة, ومكرسيها, وهي التي لا تشي إلا بمعان الاستقواء علي البسطاء وزجرهم وترويعهم ودفعهم للانسحاب الي الهوامش فيما القلب والمركز باتا ملكا خالصا لرهط المعتدين علي الحياة كما عرفناها, المؤسسين لحياة أخري ليس لنا فيها موطئ قدم! واليوم أمسك بتلابيب واحد من تجليات الشوارعيزم في البلد, ربما يبدو أكثر من غيره علامة دالة ونقطة إشارية تومئ الي تلك الحياة الجديدة, كونه متصلا مباشرة بعوامل التغيير الاقتصادي والاجتماعي والتعبيرات الثقافية والسياسية عنه. أنا بصدد الحديث عن ثقافة الاعلانات في مصر, والتي يزدحم الأثير بطنينها, ويعج الأفق برسائلها. وقبل أن يزقني أحدهم الي مستنقع السماجة, واللجاج المرذول الثقيل, ويتركني وقد غاصت قدمي في وحل التساؤل المستنكر: أو تريد من خلال ما تمهد له أن نعيش بلا اعلانات.. وكيف يمكن أن يتحقق ازدهار النشاط الاقتصادي, واشباع نزوع الناس الي الاستهلاك من دون اعلانات.. ثم إن هناك جانبا ثقافيا للموضوع يغيب عنك ألا وهو كون الاعلانات جزءا من منظومة علي بعضها تعني مجتمع الاقتصاد الحر وتنمية القدرة علي الاختيار بين بدائل.. ماذا تريد؟!. أطلب مهلة للايضاح وإكمال فكرتي, فيما أسمع أزيز محركات طائرات تستعد للاقلاع والتحليق والاغارة, وقصفي بوابل من المقولات العنقودية شديدة الانفجار تبدأ بأنني من تلك المجموعة الستيناتية التي لا يعجبها التحول الاقتصادي الرائع, معادية انجازاته مثيرة جلبة ومسببة طوشة, طارحة أفكارا بالية أكل عليها الدهر وشرب عنوانها ما يسمي: العدل الاجتماعي. ثم في انتقال مباغت من الموضوعي الي الشخصي ترتسم دوائر الرماية الشهيرة لتحوطني مستهدفة القلب أو العقل فيما يرافقها طرح لسؤال شديد المباشرة يستفهم بقرف عما اذا كنت حاقدا أو ناقما؟! وبالقطع لست هذا أو ذاك, وانما أنا واحد من أكبر مؤيدي فكر الاصلاح, ليس اليوم أو البارحة, وانما منذ سنوات ربما تبدأ بلحظة التحول الاقتصادي ذاتها عند منتصف السبعينيات ولكنني كذلك واحد من الذين لن يفرطوا أبدا في عقيدة( العدل) أيا كان وضعي أو تصنيفي الاجتماعيان. نهايته.. أنا أتحدث عن الثقافة التي أفرزتها الاعلانات, وليس عن وجوبية وجود الاعلانات من عدمها, وفي ذلك السياق أحيلكم الي مجموعة من الحالات توضح المقاصد وتشرح المعاني. نحن بقول واحد أمام إهانة متواصلة لرجولة كل رب أسرة في مصر لا يملك تلبية احتياج أبنائه وتطلعهم علي أي نحو يجاوز مجرد الطعام بمشقة, أو الكسوة بصعوبة, أو التعليم والعلاج ما تيسر!. الأولاد والبنات ينظرون الي اعلانات المنتجعات والتجمعات السكنية فاجرة الأثمان, والمشيرة الي الحدائق الغناء وأحواض السباحة حيث السباحة والبلبطة, والتكسيات الرخامية أو الحجرية الثمينة, وبراحات واسعة وملاعب جولف, ومراكز تجارية تحوي فروعا لبعض أشهر الحوانيت العالمية. والأولاد والبنات يترامقون في استغراب بعدما تأكدوا من وجود ما يسمي( قصرا) في الواقع, فيما كانوا يتصورونه خيالا ذهبيا نسجته الجدات في حواديت السندباد, وست الحسن, وعقلة الصباع! والسؤال المنطقي والمشروع الذي يتبادر الي أذهانهم بمجرد المامهم بتلك الحقيقة الصادمة هو:( هل تتيح لنا تلك الحياة التي نعيش ولو جحر للسكني حين الزواج إن وقع حادث الزواج افتراضا؟.. ثم لماذا لم نكن أبناء لأب يسكن قصرا ويستطيع دفع بضعة ملايين ثمنا له؟). والإشكالية الكبري في هذا السياق أن حكاية القصور لم تعد مسألة استثنائية ترتبط بحالة مفردة أو حفنة من الحالات, وانما باتت تشير الي طبقة اختطفت الوطن الي جهة غير معلومة, مخلفة وراءها أولئك البسطاء يضربون في أودية تيه عدم الجدوي وعدم الامكان, ومن ثم فإن السؤال يتكاثر ويتناسل في أدمغة الأبناء وسرائرهم:( من هؤلاء الناس الذين يطيقون شراء القصور ويسكنونها, ثم يمارسون فيها أنماطا من العيشة, ويستهلكون وراء أسوارها ما لا أذن سمعت ولا عين رأت؟!.. لماذا يصورون لنا الأمر علي أنه قدر مقدور؟.. إن الله مادمنا دخلنا في دوائر قدرية تحاول أن تلف الوضع كله بعبير ديني يصادق علي التفاوت لا يرضي جل وعلا إلا بالعدل). لا أطالب هنا بمجتمع طوباوي مثالي ناسه سواسية كأسنان المشط, ولكننا نؤكد ونضغط علي ضرورات وجود حد أدني اجتماعي/ اقتصادي محترم, وإلا لو تم تجاهل الضرورات فإن المحظورات ستحتل مكانها في الأفق أو ربما تكون احتلته بالفعل!! وما ينطبق علي اعلانات القصور والمنتجعات يتكرر في الاعلانات عن مروحة واسعة جدا من السلع والخدمات جميعها تهين السلطة الرمزية والمعنوية لأب بسيط في بيته, ثم بعد ذلك يتنطع علينا أحدهم متطاوسا في التلفاز ليتساءل عن أسباب تآكل تأثير الأسرة في إعداد جيل جديد صالح يحتل مكانه في المجتمع. أية أسرة؟! كيف يستطيع أب مهزوم أن يربي عياله فارضا عليهم أي شئ, فيما يواجه نظراتهم الحارقة الحائرة الغاضبة اللوامة, التي تهتف في مواجهته كل لحظة بأنه ليس السند والحضن والحماية, سائلته: اذا لم يك قادرا علي الانفاق فلماذا جاء بهم الي هذه الدنيا ليكابدوا الانكار والعزل والازاحة والاهانة, ويعانقوا أشواقا دائمة الي المستحيل؟! الي ذلك فإن حزمة ثقافة الاعلانات تشتمل عناصر بالغة التأثير في مزاج المجتمع, وأحدها هو نوع الايقاع أو الموسيقي المرافقين الاعلانات التليفزيونية مفضين الي اهتزاز راقص مستدام, وحالة أشبه بما يسود عند المتمايلين علي دقات زار تصطخب دفوفه خبطا ورقعا. تأملت ذلك النوع من الايقاع الذي بات تقليديا في الاعلانات التليفزيونية, والذي يقطع بحضوره أي استرسال فكري أو مزاجي بين النظارة, وأي برنامج أو فيلم, أو مسلسل مجبرهم علي الانصياع لفكرة( الخروج الي فاصل)!! وضعت تصوري لتأثير الايقاع الاعلاناتي بأنه تخليق حالة( درمغة) تمنع المجتمع علي بعضه, وليس قواه الشرائية فحسب, من تكوين موقف ازاء أنماط الاستهلاك التي تسوقها تلك الاعلانات وتروجها. أنا أدعوكم الي تأمل شكل الاعلانات البريطانية مثلا ونوع الايقاع السائد في بعضها, ولن تجدوا فيها أبدا ذلك الاهتزاز الراقص المتواصل الذي فيما هو ظاهر لا يفضي بأصحابه إلا لمزيد اهتزاز ورقص يغيب معهما كامل الادراك ويصبح القبول بأي شئ وكل شئ هو عنوان الحالة الدال عليها. لا أحمل الأشياء أكثر مما تطيق.. ولكنني أصف ما يجري. ثم أنظر الي ذلك التغريب المطبق الذي يصم المنتج الاعلاني( أي مادة الاعلان الفنية لا سلعتها التجارية), فأنت حين الحديث عن الناس أو الشعب بصدد شكل آخر للشعب في الاعلانات, هو ما يحبه الأقوياء الأثرياء الذين اصطنعوا وجودا بأكمله وعاشوا فيه.. فلاحون وصعايدة مثل فلقة القمر, وعيون ملونة, وشعور شقراء, وملابس نظيفة وأياد ناعمة تمسك بهذه السلعة أو تلك. وأنا لا أطالب بظهور الناس في الاعلانات علي نحو قذر أو بغير هندام, ولكنني أطالب بعدم الانهماك في التزوير الي تلك الدرجة.. لا بل ان مما يضاعف في تأثير التزييف واسع النطاق لشكل دنيانا, والذي تعد الاعلانات وثائق تعلن عن حضوره, هو الحرص علي استخدام بضع مفردات أجنبية( ألفاظا وسلوكات وأنماط عيشة) وبالطبع فإن مزاج الطبقة المهيمنة ينزع الي أن نكون أجانب أو كالأجانب, ولما كانت تلك الطبقة ألقت بالبسطاء الي أبعد بعيد, ونظرا لأنها تحتاج الي وجود بعض بسطاء في المشهد يضفون علي الحياة شكلا ومعني, أو حتي يؤكدون سيطرة الاغنياء علي الناس, فقد اخترعوا أولئك البسطاء الذين تحفل بهم الاعلانات, ولكن علي كيفهم ومزاجهم, وبعيون زرقاء وأقداح قهوة أمريكية يمسكون بها في الأيادي مع شقفات من فطائر التفاح بالقرفة, يرفعونها الي الأفواه ببطء أنيق!! ثم إن.. ألا تلاحظون أن الاعلانات تحولت في جانب من جوانبها الي وثائق تمجيد شخصي تسهم في تسويق الفرد أكثر من السلعة, أو في تعميد وتعضيد صعود من لا يستحق الي فضاء الاعتراف العام. فقد لاحظت منذ مدة حرص بعض أصحاب الأعمال علي وضع صورهم في الاعلانات, لا بل وربما يصاحب ذلك الظهور بضع آيات من القرآن الكريم وبحيث يبدو المشهد كله وكأنه عملية صناعة نجم يفتقد الشرعية, فتتم سنادته فورا بالآيات الكريمة لتمثل الايحاء بما يمكن وصفه: الاعتراف السماوي بأوضاع كلها مصطنعة ومحل ظنون وشكوك. ويبدو أن حديث الاعلانات والشوارعيزم يحتاج الي زيارة أخري!. المزيد من الأقلام والآراء