تبرعمات بغداد عبر الولاياتالمتحدة الأميركية د. محمد الدعمي في تقرير طريف كتبته مينة العريبي (صحيفة الشرق الأوسط، 19 أغسطس الجاري) من فورت رايلي في الولاياتالمتحدة الأميركية تحت عنوان "الجيش الأميركي يكرس جهوده في بناء الثقة مع العراقيين من خلال تعلم لغتهم". والحق يقال، فإن كاتبة هذا التقرير الصحفي لا تدري أن (الكتيب اللغوي) الذي تحدثت عنه والذي يراد به تلقين الجنود الأميركان بعض الألفاظ العربية، باللهجة العراقية، إنما يمثل واحدة من النهايات المرئية الحالية لما اصطلحنا عليه بالاستعراق Mesopotamianism، الاهتمام الفكري الغربي ببلاد الرافدين، (ينظر: الوطن، ص الرأي يوم 23/1/2006). التقرير أعلاه طريف، ليس فقط لأنه يلاحظ الاهتمام بتلقين العسكر الأميركان شيئاً من اللغة العربية، ولكن كذلك لأنه، حسبما أفترض في هذه المقالة، يلقي الضوء على مستقبل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، زيادة على استشراف ما سوف يناط بهذه الوحدات العسكرية من مهمات، قد تكون خارج العراق، هذه المرة!. وإذا ما زاد التقرير أعلاه شيئاً مما يتم تلقينه للأميركان من سلوكيات ينبغي ملاحظتها عند الاختلاط بالعراقيين العرب، فإن سلوكيات من نوع عدم تمشي الجنود بين السكان المحليين وهم يضعون خوذة القتال على رؤوسهم، لأنها توحي بأنهم يخشون التعرض للاعتداء، وليس الشعور بالأمان بين المواطنين المحليين. زد على ذلك بعض التعليمات التي تصل حد تجنب الاعتذار عن تناول أية مادة غذائية يقدمها عراقي للجندي الأميركي، باعتبار أن هذا الاعتذار ينطوي على شيء من الشك واستفزاز مشاعر تكريم الضيف الغريب الذي اشتهر به العراقيون. وبهذه المناسبة، للمرء أن يلاحظ شهية العسكريين الأميركان للأكلات والصحون العراقية بدرجة من "الشراهة" أنها أفرغت الأسواق والمطاعم من هذا النوع من الأكلات اللذيذة التي لا يمكن إيجادها في أي مكان آخر، ومنها السمك المسكوف والباقلاء بالدهن والباجة! وعلى المرء أن يلاحظ بهذه المناسبة أن الأميركان راحوا يبحثون عن كل دراسة أو معجم انجليزي/عربي خاص باللهجة العراقية منذ ثمانينيات القرن الماضي، أي أثناء الحرب العراقية الإيرانية. وهذا ما يجعل المرء يخشى أو يقلق مما كان يرتسم أمام أعين المخطط الاستراتيجي الأميركي في العراق أو حتى خارج حدوده، بمعنى في المناطق المشابهة للعراق من حيث البيئة والثقافة والتقاليد الاجتماعية والدينية، من بين سواها من نقاط التطابق. فإذا ما كان الأميركان قد بدأوا حملة جمع المعلومات في كل ما يتعلق باللهجة العراقية منذ أواسط ثمانينيات القرن الزائل، فإن ما يفعلونه اليوم، كما أشار التقرير المذكور أعلاه، يزيد من الشكوك في مديات ما يتأملونه ويفكرون به على المستوى المستقبلي البعيد أو القريب، حيث إن ما ينفق اليوم من أموال وجهود على سبيل جسر الفجوات بين الجندي الأميركي المبتعث عبر نصف الكرة الأرضية إلى العراق لا يمكن أن يتحدد بالآفاق الموجودة حالياً للتعاون مع العراق وبقضية بقاء القوات الأميركية في العراق. وعلى هامش الجهود الحثيثة الجارية اليوم بين واشنطن وبغداد لإيجاد صيغة نهائية لإتفاقية أمنية يمكن إستحصال مباركتها من قبل برلماني البلدين، فإن على المرء أن يلاحظ بأن كل ما طفى على السطح حول ما يجري الآن لتجهيز هذه الإتفاقية يدل على عدم الإتفاق على مواعيد محددة أو جدول زمني ثابت لإنسحاب القوات الأميركية من العراق، باستثناء الاتفاق على "مبدأ" الانسحاب بالطريقة والتوقيت الذي تحدده الحكومتان في أوانه. ومع هذا كله، فإنه من المشروع أن يشك المرء في جدية إرادة الإدارة الأميركية بالانسحاب، خاصة بعد أن استحصل الرئيس بوش موافقة من الكونجرس على مليارات الدولارات لتمويل القوات الأميركية في العراق حتى مابعد نصف السنة القادمة، الأمر الذي يعني أن الرئيس بوش قد وضع من الآن ما يحتاج إليه الرئيس القادم، بغض النظر عمن يكون، من الأموال لإدارة القوات المسلحة الأميركية الموجودة في العراق وفي الإقليم المحاذي للعراق على البر أو على مياه البحار والخلجان، من أموال وتجهيزات حتى نهاية السنة القادمة. بل أن ما يزيد من الشكوك في جدية فكرة سحب أو جلاء القوات الأميركية من العراق هي حقيقة لا يعرفها الملايين من المتابعين: حقيقة "تبرعمات بغداد" عبر النصف الثاني من الكرة الأرضية. نعم سمعنا عن وجود مدينة اسمها بغداد في الولاياتالمتحدة الأميركية (جنوب غربي ولاية أريزونا)، إلاّ أن العديد من القرّاء العرب لم يسمعوا ب"بغداد جديدة" في كاليفورنيا و ب"بغداد جديدة" أخرى في كل ولاية أميركية توجد على أرضها قوات أميركية يمكن أن ترسل إلى الشرق الأوسط. هذه "بغداد جديدة"، وتلك مدينة "وادي الصحارى" وتلك بلدة "الشامية" المشهورة بالرز العنبر، ربما، وهكذا. هذه مدن عراقية كاملة يصممها ويقيمها مهندسو القوات المسلحة الأميركية؛ وكل ما ينقصها هو السكان أي العراقيون الذين يحيون في أسواقها ويعيشون في بيوتها. وقد حل خبراء البنتاجون هذه المعضلة من خلال استئجار أو توظيف المئات من السكان العراقيين، ذكوراً وإناثاً من أجل ملء الفراغات، حيث اندفعت هذه المئات، من العراقيين المهاجرين إلى أميركا والمئات الأخرى من العرب المهجريين الساكنين هناك على طريق "أداء دور" السكان الحقيقيين لهذه "النسخ" طبق الأصل للمدن العراقية أمام أنظار الضباط والجنود الأميركان، ابتداءً من محاكاة الحياة اليومية إلى تمثيل أدوار المناسبات الاجتماعية، كاحتفالات الزواج والختان ومواكب التعزية الشيعية، وتقاليد دفن الموتى وإقامة مجالس الفاتحة، وإلى ما سواها من المناسبات الجماعية: يجري تمثيلها بكل دقة من قبل هؤلاء الشبان المستأجرين بواسطة شركات خاصة على طريق "وصف" مجسم كامل للحياة في المدن والقرى العراقية أمام القوات الأميركية كنوع من التنوير والاستعداد قبل إرسال هذه القوات إلى العراق، وربما إلى بقاع تشبه العراق في وقت آخر. وهكذا لا يبتأس من يريد أن يشرب قدحاً من العصير عند "جبار ابو الشربت" كما لا يتعب من يريد شراء ربع كيلو "قيمر السدة" من فطيمة أم القيمر. إنها نسخ صورة وصوت لمدن العراق وقراه متاحة اليوم للجنود وللمشاهدين الأميركان في أغلب الولايات الأميركية. إن مثل هذه الأنشطة والأموال التي تنفق في ذلك الجزء من الكرة الأرضية من أجل نقل قطع كاملة من المدن والقرى العربية من جنوبي العراق، زيادة على "بغدادات" (هل هذا جمع تكسير أم تحطيم؟) جديدة عبر أراضي الولاياتالمتحدة لا تدل على أن الإدارة الأميركية تخطط للإنسحاب من العراق بالسرعة التي قد يتوقعها البعض. بل أن للمرء أن يتمادى في إفتراض أن هذه الجهود والأموال إنما تستبق وجود قوات أميركية في أراضي قريبة وبين سكان يشبهون سكان العراق، والله أعلم. عن صحيفة الوطن العمانيه 23/8/2008