هل الخروج الأمريكى النهائى من العراق سيكون موكبا استعراضيا أم تقهقرا أم اندحارا؟ قال المؤرخ العسكرى مارتين فان كريفيلد عام 2005 إن الغزو الذى تم بقيادة أمريكا للعراق كان «أكثر الحروب حماقة فى التاريخ منذ أن أرسل الإمبراطور أغسطس جيوشه إلى ألمانيا فى العام التاسع قبل الميلاد وخسرها هناك». وفيما عدا تصحيح الخطأ فى التاريخ (فالصواب هو العام التاسع الميلادى)، فإن المؤرخ الإسرائيلى يقول إن رأيه المتعلق بالمغامرة فى العراق لم يتغير. وبعد أن بدأت القوات الأمريكية فى تقليص وجودها هناك ليكتمل انسحابها النهائى فى غضون الأشهر ال 30 المقبلة، نجد أن رؤية كريفيلد للأيام الأخيرة للقوات الأمريكية فى العراق قاتمة جدا. فخلال اتصال هاتفى معه الأسبوع الماضى قال لى: «قبل سنوات عدة كتبت مقالة قلت فيها إن الغزو سينتهى تماما، كما انتهت حرب فيتنام التى اضطر فيها الناس للهرب متشبثين بالمروحيات من الخارج بعد أن امتلأت بالناس من الداخل. ربما أكون قد بالغت قليلا، ولكن ليس كثيرا». عندما اجتمع الرئيس باراك أوباما مع رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى، كان السؤال المهم الذى يكمن خلف التفاؤل الرسمى هو فى الحقيقة حول أفضل السبل، التى يمكن أن يتم بها الانسحاب بصورة منتظمة لئلا يصبح تقهقرا أو اندحارا فى نهاية الأمر. وكانت الإجابات بعيدة جدا عن الوضوح. حتى الآن ظهرت بالفعل مؤشرات تبعث على القلق. فبمقتضى الاتفاقية الأمنية، التى أبرمتها إدارة الرئيس بوش العام الماضى، لم تعد القوات الأمريكية تقود الدوريات داخل بغداد اعتبارا من 30 يونيو الماضى. وقد أعطت حكومة المالكى انطباعا بأن تلك القوات غادرت المدن تماما (وهذا ليس صحيحا تماما)، وأعلنت أن ذلك اليوم هو «يوم السيادة الوطنية». وتدفق الآلاف إلى الشوارع للاحتفال بنهاية، أو على الأقل ببداية النهاية للاحتلال الأمريكى. ولما اتضح أن عددا قليلا من الأمريكيين ما زالوا موجودين فى المدينة، لم يشعر السكان بالرضا على ذلك الوضع، كما يبدو أن بعض ضباط الجيش العراقى لم يكونوا راضين أيضا. وقال العقيد على فاضل، وهو قائد لواء فى بغداد، لوكالة أسوشيتيد برس فى وقت سابق من هذا الأسبوع إن القوات الأمريكية لم تعد تستطيع تسيير دوريات بمفردها ولا بد لها من الحصول على إذن من العراقيين، وإن الأمور ستسير على ذلك النحو من الآن فصاعدا. وأضاف قائلا، دون أن يحاول تلطيف لهجته: «إن الجنود الأمريكيين أصبحوا داخل قواعد أشبه ما تكون بالسجن، وكأنهم رهن الاعتقال المنزلى». وعندما طلب إلى وزير الدفاع روبرت جيتس التعليق على هذه التصريحات خلال مؤتمر صحفى قال: «ربما يكون من بين الأدلة على نجاحنا فى العراق أن السياسة دخلت البلاد». ولكن قائد القوات الأمريكية فى بغداد الميجور جنرال دانييل بيه بولجر لم يكن بتلك الدرجة من الدبلوماسية فى رسالة إلكترونية تسربت إلى صحيفة واشنطن بوست، حيث قال مشيرا إلى نص الاتفاقية الأمنية: «ربما حدث خطأ فى الترجمة، ولكننا لن نخفى الدور المساند، الذى نقوم به فى المدينة. ويؤسفنى أن القادة العراقيين كذبوا أو خدعوا أو لفقوا، ولكننا لن نكون غير مرئيين، ولا ينبغى لنا أن نكون كذلك». وصور بولجر الوضع حسب رؤيته له بقوله: «إن شركاءنا [العراقيين] يستخدمون وقودنا، ويتنقلون على طرق نظفها مهندسونا من الألغام، ويسكنون فى قواعد بنيت بأموالنا، ويقودون سيارات تتم صيانتها بقطع الغيار التى نوفرها نحن، ويأكلون الطعام الذى دفعنا ثمنه بمقاولاتنا، وهم يستفيدون من أفلام [المراقبة] التى صورناها نحن، ويخدمون المواطنين ب [أموالنا]، ويستفيدون من غطائنا الجوى». فى الواقع يكاد المرء ينسى الحقيقة المتمثلة فى أن البلد هو بلد العراقيين، ولكن العراقيين لا ينسون ذلك. وخلال مؤتمر صحفى بواسطة دائرة فيديو عقد الثلاثاء استخدم الميجور جنرال بولجر نفسه سحره الأمريكى الصرف واستخدم لغة أقل حدة. ولكن من المشكوك فيه أن يكون قد فعل الكثير لتخفيف امتعاض العراقيين من الغرور الأمريكى، وهو امتعاض متجذر فى أعماقهم وما زال مصدرا للخطر. وأبناء العراق، (الصحوات) وهم المتمردون السابقون الذين قرروا فى الوقت الراهن تأييد حكومة المالكى والعمل مع الأمريكيين «يشكلون تقريبا ثلث القوات العراقية المقاتلة، التى توفر الحماية لسكان بغداد» حسبما قال بولجر. وهم، كما قال: «بمنزلة النسخة المحلية لقوة حراسة الحى». وفى الواقع إن قوات أبناء العراق، كما يسميها العسكريون، مؤلفة من رجال القبائل السنية، وهم يتشبثون بعزتهم بشراسة، كما أنهم يظلون ورقة لعب مجهولة فى اللعبة السياسية الحامية، التى تحتمل عنفا شديدا والتى قد يعاد لعبها مرارا خلال العامين المقبلين. ويقول بولجر: «إن أى ابن من أبناء العراق، بطبيعة تعريفه، متمرد سابق. وبحكم طبيعة النفس البشرية، إذا كان عددهم يتراوح ما بين 40 و50 ألفا، فلا بد أن تكون هناك قلة منهم ستعود من جديد إلى سابق عهدها، وقد رأينا بالفعل بعضا من ذلك». وقال ريان كروكر، السفير الأمريكى السابق لدى العراق، فى مؤتمر صحفى فى باريس فى 30 يونيو: «الوضع صعب، وسيستمر صعبا، وهو صعب فى جميع الأوقات». ولهذا السبب بالضبط فإنه عندما كان يتفاوض مع الحكومة العراقية خلال عامى 2007 و2008 بشأن الاتفاقية الأمنية، عمل بجهد أيضا «لصياغة خطة عامة لعلاقة تستمر فترة طويلة بعد عام 2011». وقد كانت تلك المسألة فى الواقع هى التى حاول أوباما والمالكى التركيز عليها خلال محادثاتهما الأربعاء. ويهدف الإطار الاستراتيجى إلى تعزيز الروابط التجارية والعلمية والقانونية والثقافية وغير ذلك من القوى، التى تستطيع تحقيق الاستقرار فى تلك العلاقة. ونحن نتمنى «حظا سعيدا» لهذه التطلعات الإستراتيجية. ولكن الجنرال بولجر رسم خلال مؤتمره الصحفى صورة واقعية للقرارات التكتيكية، التى تستطيع القوات الأمريكية اتخاذها خلال فترة خفض عدد القوات، وهى صورة غير واضحة المعالم بطريقة تبعث على القلق. فبحلول أغسطس المقبل، أى بعد عام من الآن، يفترض أن تنتهى جميع العمليات القتالية للقوات الأمريكية، ويفترض أن ينخفض عدد تلك القوات من 130.000 إلى «قوة محدودة» مؤلفة من 50.000 جندى. ولكن يبدو أن لا أحد قد اتخذ قرارا حتى الآن بشأن مكان وجود تلك القوات أو ما ستقوم به بالضبط. ويقول بولجر: «لقد اطلعت على شتى أنواع الخيارات المقترحة، وهى تشمل الانتشار فى الريف للتدريب فى ميادين ومرافق مخصصة لذلك الغرض» إلى الانتشار «على مسافة قريبة خارج المدن للمساعدة فى التدريب على عمليات ومهام من النوع الذى يستخدم فى محاربة الإرهاب»، أو نقل القوات «بعيدا إلى الحدود» لمساعدة الجيش العراقى، الذى ظل يحصر جهوده فى الداخل لقتل المواطنين المتمردين بحيث يتجه لمعالجة المشكلة المتمثلة فى «احتمال تعرض البلاد للغزو من دولة غير صديقة». وقال بولجر إنه «اطلع على جميع هذه الخيارات». وفى الواقع يعطينا التاريخ فكرة جيدة عن التحديات، التى ستواجه القوات الأمريكية المنسحبة. وهذه مسألة واضحة سواء نظرنا إلى ما جرى للأمريكيين فى فيتنام فى أوائل السبعينيات من القرن الماضى، أو انسحاب الروس من أفغانستان فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى، أو الانسحاب الإسرائيلى من لبنان فى مراحل عدة بشعة امتدت من عام 1982 إلى عام 2000. ومن بين أول الأشياء التى قد تحدث هى أن يبدأ حلفاء الماضى فى عقد صفقات مع القوى، التى يرجح بقاؤها على الساحة، وتزويد تلك القوى بكميات من المعلومات الاستخباراتية. والقوى المعنية فى هذه الحالة هى إيران. وإذا كانت خطوط الإمدادات طويلة، كما هى الحال بالتأكيد فى العراق، فإنها تصبح عرضة بصورة متزايدة للهجمات والتحرشات عندما يتم سحب كميات هائلة من العتاد وآخر من تبقى من الجنود المرافقين لها. (المثال الكلاسيكى المرعب فى التاريخ هو تقهقر البريطانيين من كابل عام 1842 عندما توجه 16.000 شخص نحو مدينة جلال آباد، ولكن لم يصل منهم سوى شخص واحد إلى تلك المدينة). وفى العراق، كما يقول فان كريفيلد، عندما ينخفض عدد الجنود الأمريكيين إلى عشرات الآلاف يمثلون القلة الأخيرة «فإن كل شىء سيتوقف على ما يريده العراقيون أنفسهم». فقد يفعلون ما فعله المجاهدون الأفغان، وهم يشاهدون القوات الروسية تنسحب من بلادهم عام 1988، حيث إنهم «لم يفعلوا شيئا سوى التفرج على الروس والسخرية منهم» كما يقول كريفيلد. أو قد ينشغلون بالاقتتال فيما بينهم، فهناك دائما تصفية حسابات قاسية عندما ينسحب المحتلون. وفى العراق نجد أن الحدود غير الرسمية، التى لم يتم الاتفاق بشأنها بين كردستان والأجزاء العربية من البلاد جنوب كردستان أصبحت تعرف منذ الآن ب«خط الزناد». أو ربما ودعونا نأمل أن يكون يوم السيادة العراقى التالى ليس أكثر من مهرجان كبير وحفل ضخم. أجل، دعونا نأمل ذلك. New York Times Syndication