تطهير عرقي مسكوت عنه فهمي هويدي بينما الجميع مشغولون بمناكفات «فتح» و«حماس»، وفي حين توزع إسرائيل حبوب السلام المخدرة على عواصم العرب، التي ابتلعها البعض وأدمنها آخرون، فإن قواتها أتمت إبادة قرية عربية في النقب، ضمن برنامج وحشي لمحو 45 قرية من الوجود. يوم الخميس 27 يوليو هاجمت البلدوزرات الإسرائيلية قرية «طويل أبو جروال». وأكملت هدم بيوتها، بعدما صادرت وحدات الجيش كل ما يملكه سكانها من الفلسطينيين العرب، المنقولات والمواشي والخيام. حتى صهاريج المياه دمرتها، وترك أهل القريب في العراء دون مأوى، تحت شمس يوليو الحارقة. الجريمة تمت في هدوء، في عملية أقرب إلى القتل باستخدام مسدس كاتم للصوت، يجهز على الضحية بغير جلبة أو ضجيج. حتى الإعلام العربي لم يكثرت بالحدث، فلا هو أبرزه ولا هو نبه إلى خطورته ودلالته. ولا أعرف أية جهة عربية أولته اهتمامها، رغم انه يصنف حقوقياً ودولياً بحسبانه «تطهيراً عرقيا»، لو أنه حدث في بلد آخر غير إسرائيل، وكان ضحاياه شعباً آخر غير الفلسطينيين، لقامت الدنيا ولم تقعد. وعند الحد الأدنى فإن الأصوات كانت ستصر على تقديم المسؤولين عن الجريمة إلى المحكمة الجنائية الدولية، هذا إذا لم تدع أصوات أخرى إلى ضرورة التدخل الدولي لوقف الكارثة والدفاع عن القيم الإنسانية. من جانبي لا أخفي شعوراً بالخجل لأنني لم أنتبه إلى الخبر في حينه، ولكنني وقعت عليه في ثنايا مقالة كتبها باحث متميز هو الدكتور محمود المبارك الأستاذ بجامعة الملك فيصل، وهو حقوقي دولي، عاتب فيها الإعلام العربي على تجاهله لجريمة محو القرية، قائلاً ان الخبر لم يثر كوامن الإعلاميين العرب، الذين يقحمون إعلامنا في كل صغير وكبير. وهو من توقع أنه سوف يتصدر العناوين الأولى للإعلام العربي المقروء والمرئي والمسموع (الحياة اللندنية 3/9). وجدت الرجل محقاً في عتابه، واعتبرت مقالته وثيقة اتهام للإعلام العربي الذي مالت أغلب قنواته ومنابره مع الريح السياسية التي تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في أولويات اهتمامها، وصدقت لا أعرف كيف أن إسرائيل جزء من معسكر «الاعتدال» في المنطقة. وإذ انتابني شعور بالذنب من جراء ذلك بحكم انتسابي إلى المهنة، فقد سارعت إلى الاتصال بالدكتور سلمان أبو ستة رئيس هيئة أرض فلسطين، صاحب الباع الطويل في هذا المجال، ومؤلف كتاب «طريق العودة» الذي أعاد فيه إحياء خريطة فلسطين قبل تدميرها. وهو من أوصلني إلى مركز «عدالة» المختص بالدفاع عن حقوق الأقلية العربية في إسرائيل. كما دلني على مصادر أخرى، عالجت موضوع عرب النقب وكشفت خلفيات ومرامي المخططات الإسرائيلية التي تنفذ هناك. في سجل إسرائيل لا يبدو محو قرية عربية من الوجود خبراً مثيراً، لأن الذي يقدم على محو بلد بأكمله لا يعجزه ولا يؤرق ضميره أن يفعلها مع قرية أو مجموعة قرى. وفي المنطق الإسرائيلي فإنه ما كان للدولة أن تقوم إلا بعد احتلال المدن ومحو القرى وطرد أهلها، وارتكاب مختلف جرائم الإبادة البشرية والتطهير العرقي. لذلك فمهما تقادم الزمن ووقعت الاتفاقات وقدمت التنازلات ورفعت رايات السلام وترددت أناشيده، فلن ينسي أن إسرائيل قامت بتهجير سكان 675 قرية فلسطين في عام ,1948 بينها حوالى 400 قرية دمرت تدميراً كاملاً ومحيت من الوجود. ورغم بشاعة هذه الخلفية، فقد نفهم أسباب لجوء إسرائيل إلى احتلال المدن وإبادة القرى في مرحلة اغتصاب الأرض وإقامة الدولة. أما حين يستمر الأسلوب ذاته بعد خمسين عاماً من قيام الدولة وفي أجواء الحديث عن السلام والتعايش مع العرب ومحاولة تطبيع العلاقات مع بعضهم، فإن نظرتنا إلى الأمر لا بد أن تختلف، باعتبار أن الجريمة تصبح أضعافا مضاعفة. إذ انها في هذه الحالة لا تصبح مجرد إصرار على الابادة والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين فحسب، وإنما تعد أيضاً نوعاً من خداع العرب والتلاعب بهم. أدرى أن ملف عرب إسرائيل مسكون بالبؤس والمذلة، من حيث أنهم في أحسن أحوالهم يظلون مواطنين من الدرجة الثانية. لكن عرب النقب بؤسهم أكبر، لأن وجودهم ذاته في خطر. والفرق بينهم وبين اخوانهم في إسرائيل أن الأخيرين يعانون من الذل، في حين أن عرب النقب يتعرضون للاستئصال. أتحدث عن أكثر من 140 ألف عربي يعيشون في منطقة النقب، التي تقع في الجزء الجنوبي من فلسطين. ويطلق عليهم في الأدبيات أسم عرب بئر السبع أو بدو النقب. وهؤلاء هم أبناء البدو الذين استوطنوا النقب (قضاء بئر السبع) منذ آلاف السنين. وامتلكوا أرضها التي قدرت في عام 1948 بخمسة ملايين دونم (الدونم يعادل ألف متر أو ربع فدان). كانوا يزرعون منها مليونين حسب موسم الأمطار. وبعد الاجتياح الإسرائيلي الكبير في عام ,1948 فرغت النقب من معظم سكانها (ما بين 80 و85?). حيث تم تهجير بعضهم وفر البعض الآخر. وبقي 11 ألفاً، تشبثوا بالأرض ورفضوا مغادرتها. وهؤلاء أصبح عددهم الآن 140 ألفاً (نصفهم يعيشون في القرى غير المعترف بها) وقد ظلت إسرائيل تطاردهم منذ عام 48 وحتى هذه اللحظة. فحجزتهم في «سياج» مساحته 900 ألف دونم. وتقلصت زراعاتهم، فانخفضت من مليوني دونم إلى 240 ألفاً على أحسن تقدير. وما برحت تلك المساحة تتآكل حيناً بعد حين، بعدما سنت حكومة إسرائيل تشريعاً اعتبرت فيه أراضي النقب ضمن «أملاك الدولة». ونقضت بذلك قانوناً بريطانياً أكده تشرشل في عام 1921 (حين كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني) اعترف بملكية البدو لتلك الاراضي، بمقتضى قانون العرف والعادة المعمول به منذ قرون. صحيح أن بدو النقب لم يسجلوا ملكيتهم للاراضي في أوراق رسمية، إلا أنهم لم يكونوا بحاجة إلى ذلك بحكم وجودهم التاريخي عليها، وهو ما أقرت به سلطة الانتداب البريطاني. وهو أيضاً ما تعاملت معه المؤسسات الصهيونية يوماً ما. حيث تشير دراسة للباحث الفلسطيني الدكتور إسماعيل أبو سعد إلى أن الصندوق القومي اليهودي اشترى بعض الاراضي في النقب لإقامة مستوطنات عليها، بين عامي 1920 و,1930 من ملاكها البدو. وهؤلاء أنفسهم من تدعي إسرائيل الآن ليسوا ملاكاً! منذ الغارة الصهيونية الكبرى في الأربعينيات وحتى هذه اللحظة، ظلت أراضي النقب التي احتفظ بها أصحابها العرب شوكة في حلق السلطة الإسرائيلية. ولعلمك فإن إسرائيل هي الدولة «الديموقراطية» الوحيدة في العالم التي تملك الحكومة فيها 93? من الأراضي (أصحاب العقارات اليهود يمنحون رخصاً للبناء فوق أراض يستأجرونها لمدة 49 عاماً). لذلك فليس مستغرباً أن تضيق الحكومة الإسرائيلية أشد الضيق لأن العرب الذين يمثلون 19? من سكانها يضعون أيديهم على 5,3? من الأراضي. ولأن الأرض هي عصب الصراع وجوهره، فإن الحكومة الإسرائيلية ظلت تلاحق عرب النقب بمختلف السبل لكي تقتلعهم من أرضهم، لتتولى تسكينهم في مناطق أخرى، من التي وضعت يدها عليها. من ذلك انها اعتبرت أن الأربعين قرية التي يعيش فيها 70 ألف عربي غير قانونية، بدعوى أنها أقيمت فوق أراضي الدولة، وبدون تصريح. وعمدت إلى إنذار سكان القرى بضرورة المغادرة، وشرعت في هدم بيوتهم. وفي الوقت ذاته، فإنها لجأت إلى تسميم زراعاتهم عن طريق رشها بالمبيدات التي تهلك الزرع وتعوق نموه، كما لجأت إلى تسميم مواشيهم حتى تضيق عليهم أسباب العيش، وتدفعهم إلى هجرة المكان. ورغم ذلك فإنهم ظلوا صامدين طول الوقت، وقد تسلحوا في ذلك بإصرار مدهش على التشبث بالأرض والتمسك بحقهم فيها. في عام 2000 كتب ارييل شارون، مباشرة قبل توليه رئاسة الحكومة، مقالة نشرتها مجلة «الأرض»، ذكر فيها أنه باعتباره من سكان النقب، فإنه يرى بأم عينيه كل يوم أن حوالى 900 ألف دونم من أرض الدولة ليست في أيدي الحكومة، ولكنها في قبضة البدو الذين يقضمون حدود الدولة ويتمددون على أرضها، دون أن ينتبه أحد إلى خطورة ما يفعلون. وهي المقالة التي رد عليها في عام 2003 أحد مثقفي البدو، البروفيسور إسماعيل أبو سعد، قائلاً: كيف نعتبر دخلاء على النقب، في حين أن أسلافنا عاشوا هنا منذ آلاف السنين؟ في العام ذاته (2003) وشارون على رأس الحكومة أقرت إحدى اللجان الوزارية خطة «معالجة الوسط البدوي في النقب»، التي أصبح يطلق عليها «خطة شارون». وفي حين أعلن رسمياً أن هدفها هو «تغيير وتحسين وضع البدو». إلا أن الهدف الحقيقي لها هو السيطرة على أراضي العرب في النقب، وتهجير السكان وتجميعهم في سبع بلدات خططت الحكومة الإسرائيلية لإقامتها، لتصفية القرى التي يقيمون فيها على أرضهم. وخلال السنوات التالية بدأت خطوات تنفيذ المخطط الذي كانت قرية طويلة أبو جروال أحدث ضحاياه. وحدهم عرب القرى غير المعترف بها في النقب، المقرر إزالتها، يواجهون الجبروت الإسرائيلي الذي يمارس في غفلة من الجميع. فقد شكلوا من بينهم مجلساً إقليمياً بينهم برئاسة حسين الرفايعة. الذي يقود مع زملائه حمله الصمود في مواجهة حملة التدمير الإسرائيلية. وفي التقارير التي وقعت عليها وجدته يقول دائماً ان البلدوزرات إذا هدمت بيوتهم، فسوف يقيمون خياماً ينصبونها ليظلوا فوق أرضهم يعيشون عليها ويواصلون زراعتها كما فعل أجدادهم. قرأت في التقارير أيضاً كلاماً لعقيل الطلالقة رئيس اللجنة المحلية للقرية التي تم هدمها. قال فيه: الإسرائيليون إذا كانوا قد هدموا (طويل أبو جروال) وحاولوا محوها من الجغرافيا 11 مرة، فإنهم لن يستطيعوا محوها لا من التاريخ ولا من قلوب أبنائها، المستعدين للموت دفاعاً عن ترابها. إلى جانب هؤلاء فإن بعض الجمعيات الأهلية التي تضم أجانب وعرباً (من بينها جمعية «بديل» في بيت لحم و«عدالة» في الناصرة) لا تكف عن تسجيل جرائم إسرائيل وتزويد الأممالمتحدة بالوثائق التي تدينها بها. بل ان جمعية بديل شكلت مجموعة ضمت 30 من خبراء القانون الدولي المتطوعين، الذين يعدون التقارير والشهادات الخاصة بالممارسات الإسرائيلية إلى لجان الأممالمتحدة. إن ما قامت به إسرائيل في قرية طويل، ومخططها لإبادة بقية قرى النقب التي تدّعي عدم قانونيتها هو جريمة تطهير عرقي، تنطبق عليها أحكام القانون الجنائي الدولي. وكما ذكر الدكتور محمود المبارك فإن المفهوم المبسط للتطهير العرقي: الطرد القسري لمجموعة من السكان غير المرغوب في وجودهم من منطقة معينة، كنتيجة للتمييز العرقي أو الديني، أو لاعتبارات سياسية واستراتيجية، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة. وهو التعريف الذي ينطبق بالكامل على الحالة التي نحن بصددها. لكن الحق لا يمضي وحده، وإنما يظل بحاجة إلى رجال يحملونه ويذودون عنه. وقد بذل أهل النقب غاية جهدهم في ذلك، بصمودهم واستغاثتهم بالأممالمتحدة، التي أغمضت أعينها عما يجري هناك، ولم تعد تنشغل إلا بما يحدث في دارفور. ولا نستطيع أن نلومها في ذلك، لأننا وقفنا نفس الموقف. فلم نرد ولم نسمع ولم نتكلم يا ويلاه! عن صحيفة السفير اللبنانية 11/9/2007