نقلا عن جريدة الاهرام11/9/07 بينما الجميع مشغولون بمناكفات فتح وحماس, وفي حين توزع إسرائيل حبوب السلام المخدرة علي عواصم العرب, التي ابتلعها البعض وأدمنها آخرون, فإن قواتها أتمت إبادة قرية عربية في النقب ضمن برنامج وحشي لمحو45 قرية من الوجود. يوم الخميس27 يوليو, هاجمت البلدوزرات الإسرائيلية قرية طويل أبوجروال, وأكملت هدم بيوتها, بعدما صادرت وحدات الجيش كل ما يملكه سكانها من الفلسطينيين العرب: المنقولات والمواشي والخيام, حتي صهاريج المياه دمرتها, وترك أهل القرية في العراء دون مأوي, تحت شمس يوليو الحارقة. الجريمة تمت في هدوء, في عملية أقرب إلي القتل باستخدام مسدس كاتم للصوت, الذي يجهز علي الضحية بغير جلبة أو ضجيج حتي الإعلام العربي لم يكترث بالحدث فلا هو أبرزه ولا هو نبه إلي خطورته ودلالته ولا أعرف أية جهة عربية أولته اهتمامها, برغم أنه يصنف حقوقيا ودوليا بحسبانه تطهيرا عرقيا, لو أنه حدث في بلد آخر غير إسرائيل وكان ضحاياه شعبا آخر غير الفلسطينيين لقامت الدنيا ولم تقعد وعند الحد الأدني فإن الأصوات كانت ستصر علي تقديم المسئولين عن الجريمة إلي المحكمة الجنائية الدولية هذا اذا لم تدع أصوات أخري إلي ضرورة التدخل الدولي لوقف الكارثة والدفاع عن القيم الإنسانية. من جانبي, لا أخفي شعورا بالخجل لأنني لم أنتبه إلي الخبر في حينه, ولكنني وقعت عليه في ثنايا مقالة كتبها باحث متميز هو الدكتور محمود المبارك الأستاذ بجامعة الملك فيصل, وهو حقوقي دولي, عاتب فيها الإعلام العربي علي تجاهله لجريمة محو القرية, قائلا إن الخبر لم يثر كوامن الإعلاميين العرب, الذين يقحمون إعلامنا في كل صغير وكبير, وهو من توقع أنه سوف يتصدر العناوين الأولي للإعلام العربي المقروء والمرئي والمسموع. وجدت الرجل محقا في عتابه, واعتبرت مقالته وثيقة اتهام للإعلام العربي الذي مالت أغلب قنواته ومنابره مع الريح السياسية التي تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في أولويات اهتمامها, وصدقت لا أعرف كيف أن إسرائيل جزء من معسكر الاعتدال في المنطقة. وإذ انتابني شعور بالذنب من جراء ذلك بحكم انتسابي إلي المهنة, فقد سارعت إلي الاتصال بالدكتور سلمان أبوستة رئيس هيئة أرض فلسطين, صاحب الباع الطويل في هذا المجال, ومؤلف كتاب طريق العودة الذي أعاد فيه إحياء خريطة فلسطين قبل تدميرها, وهو من أوصلني إلي مركز عدالة المختص بالدفاع عن حقوق الأقلية العربية في إسرائيل, كما دلني علي مصادر أخري, عالجت موضوع عرب النقب وكشفت خلفيات ومرامي المخططات الإسرائيلية التي تنفذ هناك. في سجل إسرائيل لا يبدو محو قرية عربية من الوجود خبرا مثيرا لأن الذي يقدم علي محو بلد بأكمله لا يعجزه ولا يؤرق ضميره أن يفعلها مع قرية أو مجموعة قري وفي المنطق الإسرائيلي فإنه ما كان للدولة أن تقوم إلا بعد احتلال المدن ومحو القري وطرد أهلها, وارتكاب مختلف جرائم الإبادة البشرية والتطهير العرقي, لذلك فمهما تقادم الزمن ووقعت الاتفاقات وقدمت التنازلات ورفعت رايات السلام وترددت أناشيده فلن ينسي أن إسرائيل قامت بتهجير سكان675 قرية فلسطينية في عام1948, بينها نحو400 قرية دمرت تدميرا كاملا ومحيت من الوجود. وبرغم بشاعة هذه الخلفية, فقد نفهم أسباب لجوء إسرائيل إلي احتلال المدن وإبادة القري في مرحلة اغتصاب الأرض وإقامة الدولة أما حين يستمر الأسلوب ذاته بعد خمسين عاما من قيام الدولة وفي أجواء الحديث عن السلام والتعايش مع العرب ومحاولة تطبيع العلاقات مع بعضهم, فإن نظرتنا إلي الأمر لابد أن تختلف باعتبار أن الجريمة تصبح أضعافا مضاعفة, إذ إنها في هذه الحالة لا تصبح مجرد إصرار علي الإبادة والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين فحسب وإنما تعد أيضا نوعا من خداع العرب والتلاعب بهم. أدري أن ملف عرب إسرائيل مسكون بالبؤس والمذلة, من حيث إنهم في أحسن أحوالهم يظلون مواطنين من الدرجة الثانية لكن عرب النقب بؤسهم أكبر لأن وجودهم ذاته في خطر والفرق بينهم وبين اخوانهم في إسرائيل أن الأخيرين يعانون من الذل, في حين أن عرب النقب يتعرضون للاستئصال. أتحدث عن أكثر من140 ألف عربي يعيشون في منطقة النقب, التي تقع في الجزء الجنوبي من فلسطين ويطلق عليهم في الأدبيات اسم عرب بئر السبع أو بدو النقب. وهؤلاء هم أبناء البدو الذين استوطنوا النقب( قضاء بئر السبع) منذ آلاف السنين, وامتلكوا أرضها التي قدرت في عام1948 بخمسة ملايين دونم( الدونم يعادل ألف متر أو ربع فدان) , كانوا يزرعون منها مليونين حسب موسم الأمطار, وبعد الاجتياح الإسرائيلي الكبير في عام1948, فرغت النقب من معظم سكانها( ما بين80 و85%) حيث تم تهجير بعضهم وفر البعض الآخر, وبقي11 ألفا, تشبثوا بالأرض ورفضوا مغادرتها, وهؤلاء أصبح عددهم الآن140 ألفا( نصفهم يعيشون في القري غير المعترف بها) وقد ظلت إسرائيل تطاردهم منذ عام1948 وحتي هذه اللحظة, فحجزتهم في سياج مساحته900 ألف دونم وتقلصت زراعاتهم. فانخفضت من مليوني دونم إلي240 ألفا علي أحسن تقدير وما برحت تلك المساحة تتآكل حينا بعد حين بعدما سنت حكومة إسرائيل تشريعا اعتبرت فيه أراضي النقب ضمن أملاك الدولة ونقضت بذلك قانونا بريطانيا أكده تشرشل في عام1921( حين كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني) اعترف بملكية البدو لتلك الأراضي, بمقتضي قانون العرف والعادة المعمول به منذ قرون. صحيح أن بدو النقب لم يسجلوا ملكيتهم للأراضي في أوراق رسمية, إلا أنهم لم يكونوا بحاجة إلي ذلك بحكم وجودهم التاريخي عليها وهو ما أقرت به سلطة الانتداب البريطاني, وهو أيضا ما تعاملت معه المؤسسات الصهيونية يوما ما حيث تشير دراسة للباحث الفلسطيني الدكتور إسماعيل أبوسعد إلي أن الصندوق القومي اليهودي اشتري بعض الأراضي في النقب لإقامة مستعمرات عليها, بين عامي1920 و1930 من ملاكها البدو وهؤلاء أنفسهم من تدعي إسرائيل الآن أنهم ليسوا ملاكا! منذ الغارة الصهيونية الكبري في الأربعينيات وحتي هذه اللحظة ظلت أراضي النقب التي احتفظ بها أصحابها العرب شوكة في حلق السلطة الإسرائيلية ولعلمك فإن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في العالم التي تملك الحكومة فيها93% من الأراضي( أصحاب العقارات اليهود يمنحون رخصا للبناء فوق أراض يستأجرونها لمدة49 عاما) لذلك فليس مستغربا أن تضيق الحكومة الإسرائيلية أشد الضيق لأن العرب الذين يمثلون19% من سكانها يضعون أيديهم علي3,5% من الأراضي. لأن الأرض هي عصب الصراع وجوهره, فإن الحكومة الإسرائيلية ظلت تلاحق عرب النقب بمختلف السبل لكي تقتلعهم من أرضهم, لتتولي تسكينهم في مناطق أخري, من التي وضعت يدها عليها من ذلك أنها اعتبرت أن الأربعين قرية التي يعيش فيها70 ألف عربي غير قانونية بدعوي أنها أقيمت فوق أراضي الدولة وبدون تصريح, وعمدت إلي انذار سكان القري بضرورة المغادرة وشرعت في هدم بيوتهم, وفي الوقت ذاته, فإنها لجأت إلي تسميم زراعاتهم عن طريق رشها بالمبيدات التي تهلك الزرع وتعوق نموه, كما لجأت إلي تسميم مواشيهم حتي تضيق عليهم أسباب العيش, وتدفعهم إلي هجرة المكان وبرغم ذلك فإنهم ظلوا صامدين طول الوقت, وقد تسلحوا في ذلك بإصرار مدهش علي التشبث بالأرض والتمسك بحقهم فيها. في عام2000 كتب آرئيل شارون, مباشرة قبل توليه رئاسة الحكومة, مقالة نشرتها مجلة الأرض, ذكر فيها أنه باعتباره من سكان النقب فإنه يري بأم عينيه كل يوم أن نحو900 ألف دونم من أرض الدولة ليست في أيدي الحكومة ولكنها في قبضة البدو الذين يقضمون حدود الدولة ويتمددون علي أرضها دون أن ينتبه أحد إلي خطورة ما يفعلون وهي المقالة التي رد عليها في عام2003 أحد مثقفي البدو البروفيسور إسماعيل أبوسعد, قائلا: كيف نعتبر دخلاء علي النقب, في حين أن أسلافنا عاشوا هنا منذ آلاف السنين؟. في العام ذاته(2003) وشارون علي رأس الحكومة أقرت إحدي اللجان الوزارية خطة معالجة الوسط البدوي في النقب التي أصبح يطلق عليها خطة شارون وفي حين أعلن رسميا أن هدفها هو تغيير وتحسين وضع البدو إلا أن الهدف الحقيقي لها هو السيطرة علي أراضي العرب في النقب وتهجير السكان وتجميعهم في سبع بلدات خططت الحكومة الإسرائيلية لإقامتها لتصفية القري التي يقيمون فيها علي أرضهم وخلال السنوات التالية بدأت خطوات تنفيذ المخطط الذي كانت قرية طويل أبوجروال أحدث ضحاياه. وحدهم عرب القري غير المعترف بها في النقب المقرر إزالتها يواجهون الجبروت الإسرائيلي الذي يمارس في غفلة من الجميع, فقد شكلوا من بينهم مجلسا إقليميا برئاسة حسين الرفايعة الذي يقود مع زملائه حملة الصمود في مواجهة حملة التدمير الإسرائيلية, وفي التقارير التي وقعت عليها وجدته يقول دائما إن البلدوزرات اذا هدمت بيوتهم فسوف يقيمون خياما ينصبونها ليظلوا فوق أرضهم يعيشون عليها ويواصلون زراعتها كما فعل أجدادهم, قرأت في التقارير أيضا كلاما لعقيل الطلالقة رئيس اللجنة المحلية للقرية التي تم هدمها قال فيه: الإسرائيليون اذا كانوا قد هدموا( طويل أبوجروال) وحاولوا محوها من الجغرافيا11 مرة فإنهم لن يستطيعوا محوها لا من التاريخ ولا من قلوب أبنائها, المستعدين للموت دفاعا عن ترابها. إلي جانب هؤلاء فإن بعض الجمعيات الأهلية التي تضم أجانب وعربا( من بينها جمعية بديل في بيت لحم وعدالة في الناصرة) لا تكف عن تسجيل جرائم إسرائيل وتزويد الأممالمتحدة بالوثائق التي تدينها بها, بل إن جمعية بديل شكلت مجموعة ضمت30 من خبراء القانون الدولي المتطوعين, الذين يعدون التقارير والشهادات الخاصة بالممارسات الإسرائيلية إلي لجان الأممالمتحدة. إن ما قامت به إسرائيل في قرية طويل ومخططها لإبادة بقية قري النقب التي تدعي عدم قانونيته هو جريمة تطهير عرقي, تنطبق عليها أحكام القانون الجنائي الدولي وكما ذكر الدكتور محمود المبارك فإن المفهوم المبسط للتطهير العرقي أنه: الطرد القسري لمجموعة من السكان غير المرغوب في وجودهم من منطقة معينة كنتيجة للتمييز العرقي أو الديني أو لاعتبارات سياسية واستراتيجية أو لكل هذه الأسباب مجتمعة وهو التعريف الذي ينطبق بالكامل علي الحالة التي نحن بصددها لكن الحق لا يمضي وحده وانما يظل بحاجة إلي رجال يحملونه ويذودون عنه وقد بذل أهل النقب غاية جهدهم في ذلك بصمودهم واستغاثتهم بالأممالمتحدة التي أغمضت أعينها عما يجري هناك ولم تعد تنشغل إلا بما يحدث في دارفور ولا نستطيع أن نلومها في ذلك لأننا وقفنا نفس الموقف فلم نرد ولم نسمع ولم نتكلم يا ويلاه