يبدو أن صقور الإدارة الأمريكية مصممون على الغوص في المستنقع الأفغاني، فلا هيم يحققون نصراً ملموساً على أرض الواقع، ولا هم يحاولون لملمة ما تبقى من كرامتهم المجروحة أمام الهجمات القاسية من حركة طالبان، وإعطاء فرصة للمساع الأممية التي تحاول التفاوض مع الحركة لترك ساحة القتال، والانضمام إلى الحياة السياسية.
ففي الوقت الذي أنتقد فيه كاي إيدي، وهو الرئيس السابق لمهمة الأممالمتحدة في أفغانستان، العملية الباكستانيةالأمريكية المشتركة في اعتقال زعماء كبار الحركة الأفغانية في باكستان، مما أوقف معظم المحادثات بين المتمردين وممثلي المنظمة الدولية أشاد ريتشارد هولبروك المبعوث الأميركي إلى باكستانوأفغانستان بتلك العملية، رغم اعترافه بعلمه بوجود تلك المحادثات عن طريق كاي إيدي نفسه.
المحادثات السرية تلك كانت تقام بين المؤسسة الأممية وأعضاء بارزين من حركة طالبان، بموافقة مباشرة من زعيم الحركة الملا عمر نفسه، إذن هناك إصرار أمريكي على وقف أي عمليات تفاوضية مع حركة طالبان الأفغانية على الأقل خلال الفترة الحالية، ولكن ترى ما الذي تغير في الإستراتيجية الأمريكية تجاه الملف الأفغاني؟
في تأكيد رسمي من قبل الحكومة الأفغانية على وجود اتصالات غير مباشرة بينها وبين الحركة قال سياماك هيراوي المتحدث باسم الرئيس الأفغاني حميد كرزاي إن اعتقال قادة في حركة طالبان في باكستان "أثر سلبيا" على محادثات السلام بين الحكومة الأفغانية والمتمردين، خاصة الملا برادر، الذي يعتبر المهندس الفعلي لسياسية حركة طالبان أفغانستان العسكرية حيث أعد مقاتلي الحركة لحر ب العصابات طويلة الأمد لمواجهة التفوق العسكري الواضح للقوات الأجنبية في أفغانستان.
إدارة أوباما، وبحسب تقارير إخبارية أمريكية، تريد وضع إستراتيجية جديدة في أفغانستان تعتمد على هزيمة حركة طالبان، ومن ثم مفاوضتها، من منطلق القوة، ثم بعد ذلك يأت الحديث عن التفاوض غير المباشر مع الحركة، ويبدو أن أوباما مُجبر كما في كثير من القضايا التي تواجه سياسته الخارجية على اتخاذ مثل هذه الخطة في ظل تدني شعبيته في الداخل لأدني مستوياتها، وانتقادات شديدة من الحزب الجمهوري العدو اللدود لسياساته الداخلية والخارجية، واقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر تشرين الثاني المقبل.
العملية العسكرية الأخيرة في إقليم هلمند تشير إلى تقدم القوات الدولية، ولكن هذا التقدم دون فاعلية تذكر، فحتى الآن لم تتم مواجهات حقيقية بين القوات والحركة، كما أن الأماكن التي تم تمشيطها من قبل القوات الدولية، تنقل قياداتها إلى الجيش الأفغاني ذي الإمكانيات المحدودة.
إلا أن العملية المرتقبة على ولاية قندهار جنوبأفغانستان تختلف تماماً عن عملية هلمند، فقندهار ذات وضع خاص للغاية، فهي معقل حركة طالبان أفغانستان، وفيها مركز قيادة الحركة، لذلك من المتوقع أن تواجه القوات الأمريكية وحلفائها مقاومة شرسة من قبل مقاتلي الحركة، بل ومن قبل قاطني الولاية الذين يرفضون العملية العسكرية والوجود الأجنبي برمته في البلاد.
وتصريحات قادة الحركة تشير إلى أن اشتباكات عنيفة تنتظر القوات الدولية في الإقليم، وربما ظهرت أولى بوادر عنف تلك الاشتباكات، في الهجوم الذي تبنته الحركة في الإقليم وأدي إلى مقتل العشرات، في رسالة تحذير قوية إلى القوات الأمريكية وحلفائها التي تخطط لشن هجوم هناك.
كما تعتمد القوات الأمريكية في مواجهاتها مع حركة طالبان مع مليشيات محلية مناهضة لحركة طالبان، بهدف تعزيز المعارضة المحلية للحركة دون علم حلفاء أميركا في البلاد، تدار من قبل قيادة أميركية للقوات الخاصة خارج نطاق سيطرة قوات حلف الناتو.
وفكرة المليشيات هذه نسخها القائد الأميركي ستانلي ماكريستال من فكرة الصحوات في العراق، والتي قدمت خدمات جليلة للقوات الأمريكية في العراق، إلا أن الوضع في أفغانستان يختلف تماماً عنه في العراق، فالعقلية الأفغانية ذات طبيعة خاصة، فهي وكما يشبهها الخبير السويسري في شؤون الإرهاب، جاك ف. بو بأنها تشبه شيئا ما جغرافية البلاد، فغالبيتهم جبليون يركزون اهتمامهم على مجتمعهم المحلي ولا يأبهون كثيرا بالعالم الخارجي.
لذلك هم لا يأبهون ولا يطلبون أن يضخ الغربيون استثمارات كبيرة في بلادهم أو أن يقوموا بتحديثها، بل يريدون إدارة تنميتها بأنفسهم، بوتيرتهم وعلى طريقتهم وبتناغم مع ثقافتهم، وهذا يفسر الفارق بين صحوات العراق الذين عرضوا المساعدة والدعم للأمريكان، ومحاولة الأخيرين استمالة بعض المليشيات الأفغانية عن طريق المال.
أما السبب الأكثر أهمية من وجهة نظري يكمن في طبيعة الصراع الدائر بين الحركة ومؤيديها وبين أمريكا وحلفائها، فهو يرتكز على أرضية دينية وعقائدية، فعلي الرغم من تأكيدات أوباما وإدارته على أن الحرب الدائرة في أفغانستان هي حرب على التطرف والإرهاب، بيد أن طالبان بمقاتليها الكثر من البلدان الإسلامية يرون في الحرب الأمريكية على أفغانستان بأنها حرب دينية صليبية، أعلنها جورج بوش الابن علانية، لذا فهم يدافعون عن الإسلام.
يبدو أن أوباما وإدارته قررا أن ينحيا منحى استكمال الحرب، دون إعطاء أي فرصة لوجود أرضية تفاوضية بين الأطراف المتنازعة في أفغانستان، لتحقيق انتصارات، تقوى وضعه الداخلي والخارجي، على حساب الشعب الأفغاني، الذي أرهقته الحروب ودمرت القوات الدولية مدنه وقتلت منه عشرات الآلاف، ولعبة التجاذبات الدولية والإقليمية، الذي أُجبر أن يكون أحد أطرافها.