وزير الاتصالات: التعاون مع الصين امتد ليشمل إنشاء مصانع لكابلات الألياف الضوئية والهواتف المحمولة    قطع المياه اليوم 4 ساعات عن 11 قرية بالمنوفية    الأردن والعراق يؤكدان ضرورة خفض التصعيد في المنطقة    بعد تصريحات حسن نصرالله.. سماع دوي انفجارات في بيروت    أبو الغيط يعرب عن تطلعه إلى دعم سلوفينيا للقضية الفلسطينية    ولي عهد الكويت يبحث مع رئيس شركة أمريكية سبل تعزيز التعاون المشترك    طائرات الاحتلال تشن غارات على بلدة شقرا جنوب لبنان    حمادة طلبة: الزمالك قادر على تحقيق لقب السوبر الأفريقي.. والتدعيمات الجديدة ستضيف الكثير أمام الأهلي    فابريجاس يحقق فوزه الأول في الدوري الإيطالي    قلق في الأهلي بسبب رباعي الزمالك قبل السوبر الأفريقي.. وتصرف هام من كولر    إصابة 7 أشخاص في مشاجرة بين عائلتين بقنا    غلطة سائق.. النيابة تستعلم عن صحة 9 أشخاص أصيبوا في انقلاب سيارة بالصف    محافظ أسوان: لا توجد أي حالات جديدة مصابة بالنزلات المعوية    ما حكم قراءة سورة "يس" بنيَّة قضاء الحاجات وتيسير الأمور    هل انتقلت الكوليرا من السودان إلى أسوان؟ مستشار رئيس الجمهورية يرد    أبو الغيط يلتقي رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي    السفير ماجد عبد الفتاح: تعديل موعد جلسة مجلس الأمن للخميس بمشاركة محتملة لماكرون وميقاتي    الإمارات والولايات المتحدة توقعان اتفاقية لتعزيز التعاون الجمركي    ارتفاع كبير في سعر الجنيه الذهب بختام تعاملات الثلاثاء 24 سبتمبر    محافظ شمال سيناء يلتقي مشايخ وعواقل نخل بوسط سيناء    المباراة 300 ل أنشيلوتي.. ريال مدريد يكسر قاعدة الشوط الأول ويفلت من عودة ألافيس    تشيلسي يكتسح بارو بخماسية نظيفة ويتأهل لثمن نهائي كأس الرابطة الإنجليزية    رياضة ½ الليل| الزمالك وقمصان يصلان السعودية.. «أمريكي» في الأهلي.. ومبابي يتألق في الخماسية    "الناس ظلمتني وبفعل فاعل".. أبو جبل يكشف كواليس فشل انتقاله إلى الأهلي    بعد الاستقرار على تأجيله.. تحديد موعد كأس السوبر المصري في الإمارات    يقفز من جديد 120 جنيهًا.. مفاجأة أسعار الذهب اليوم الأربعاء «بيع وشراء» عيار 21 بالمصنعية    مياه المنوفية ترد على الشائعات: جميع المحطات بحالة جيدة ولا يوجد مشكلة تخص جودة المياه    الكيلو ب7 جنيهات.. شعبة الخضروات تكشف مفاجأة سارة بشأن سعر الطماطم    مقتل عنصر إجرامي خطر خلال تبادل إطلاق النار مع الشرطة في قنا    لرفضه زواجه من شقيقته.. الجنايات تعاقب سائق وصديقه قتلوا شاب بالسلام    حريق داخل محل بجوار مستشفى خاص بالمهندسين    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق شقة سكنية بمدينة 6 أكتوبر    رئيس الإمارات يبحث التطورات بمجال التكنولوجيا الحديثة مع مسؤولين في واشنطن    خلال لقائه مدير عام اليونسكو.. عبد العاطي يدعو لتسريع الخطوات التنفيذية لمبادرة التكيف المائي    وفاة الإعلامي أيمن يوسف.. وعمرو الفقي ينعيه    حظك اليوم| الأربعاء 25 سبتمبر لمواليد برج الحوت    حظك اليوم| الأربعاء 25 سبتمبر لمواليد برج العذراء    حظك اليوم| الأربعاء 25 سبتمبر لمواليد برج الدلو    «بفعل فاعل».. أبوجبل يكشف لأول مرة سر فشل انتقاله إلى الأهلي    حدث بالفن| وفاة شقيق فنان ورسالة تركي آل الشيخ قبل السوبر الأفريقي واعتذار حسام حبيب    متحدث الوزراء عن التقاء "مدبولي" بالسفراء: هدفه زيادة الاستثمارات    هل الصلاة بالتاتو أو الوشم باطلة؟ داعية يحسم الجدل (فيديو)    السعودية وبلغاريا تبحثان تعزيز علاقات التعاون    «اللي يصاب بالبرد يقعد في بيته».. جمال شعبان يحذر من متحور كورونا الجديد    هل هناك جائحة جديدة من كورونا؟.. رئيس الرابطة الطبية الأوروبية يوضح    طريقة عمل الزلابية، لتحلية رخيصة وسريعة التحضير    آيتن عامر تعلق على أزمتها مع طليقها وكواليس فيلمها الجديد (فيديو)    فوائد زبدة الفول السوداني، لصحة القلب والعظام والدماغ    رسائل نور للعالمين.. «الأوقاف» تطلق المطوية الثانية بمبادرة خلق عظيم    حقوق الإنسان التى تستهدفها مصر    وفد من الاتحاد الأوروبي يزور الأديرة والمعالم السياحية في وادي النطرون - صور    وزير الدفاع يشهد مشروع مراكز القيادة للقوات الجوية والدفاع الجوى    أمين عام هيئة كبار العلماء: تناول اللحوم المستنبتة من الحيوان لا يجوز إلا بهذه الشروط    خالد الجندي يوجه رسالة للمتشككين: "لا تَقْفُ ما ليس لكم به علم"    5 توصيات لندوة "الأزهر" حول المرأة    صاحبة اتهام صلاح التيجاني بالتحرش: اللي حابة تحكي تجربتها تبعتلي ونتواصل    جامعة الأزهر: إدراج 43 عالمًا بقائمة ستانفورد تكريم لمسيرة البحث العلمي لعلمائنا    صوت الإشارة.. قصة ملهمة وبطل حقيقي |فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



14 آذار: الاستسلام كتأجيل للهزيمة / عباس بيضون
نشر في محيط يوم 28 - 07 - 2008


14 آذار: الاستسلام كتأجيل للهزيمة
عباس بيضون
كان الأمر متوقعاً، فهذه هي الدفعة الأخيرة في حساب حرب تموز. هناك مقايضة، إذا أضفنا إليها مزارع شبعا، قد تكون كاملة. عاد الأسرى والشهداء وبوسع الجميع أن يتنفسوا الآن، على الأقل، لقد أغلق حساب طويل، سنترك سمير القنطار يتكلم عن الحرب الدائمة، لكن كلام السيد نصر الله وقادة حزب الله يوحي بأن جولة انتهت.
إنها الخاتمة السعيدة لانتصار تموز »من يستطيع الآن أن يجادل في هذا الاسم«؟ وإذا أضفنا إلى ذلك النصر السهل في معركة بيروت والجبل، بات ممكناً الانتقال الى فترة من السماح لجني ثمار الانتصار وتوطيد نتائجه. أما أن الانتصار ينفي سبب وجوده، أما أن الحرب بعد الانتصار ستكون أقل مثولاً والسلاح قد لا يكون بالضرورة نفسها. أما هذا السؤال الذي كان يلقي لغزاً على المقاومة لا يسهل فكه فقد اختفى، »السؤال واللغز« من يحمله.
من الواضح الآن أن الانتصار جبّ ما قبله. ففي »الإجماع« على العيد والاحتفال نُسيت معركة بيروت. سُحب السؤال »النظري« عن ماهية المقاومة ومطابقتها لاسمها. سحب السؤال الحقوقي عن صفة أحداث أيار، وبالطبع لن يبقى بعد قليل السؤال السياسي عن الازدواج والشرعيتين. والغلبة والتوازن.. إلخ. فالواضح أن الإجماع على عيد استقبال الأسرى كان اعترافاً متأخراً للغاية بحرب تموز. لقد انفضّ الجدال حولها وباتت الآن شأناً وطنياً عاماً.
لا نشك في أن هذا قد يكون بالأولى اعترافا متزايدا بانتصار بيروت. لقد جاء من وصموا هذا الانتصار بالغصب والانقلاب والاستيلاء الى خيمة »المقاومة«، مجددين الاعتراف بالاسم والدور والحق. بل ماحضينها اعترافا لا غمغمة فيه هذه المرة.
حظيت حرب تموز بإجماع متأخر، ومثلت نتائج حرب بيروت مع تغييب إرادي لاسمها، للمقاومة أن ترتاح الآن وأن تفكر بأن الوقت حان لاستثمار »سياسي« للنصر الذي حياه البعض ورضخ له البعض الآخر. لا بد أن هذا الرضوخ يتطلب أكثر مزاوجة »السياسة« بالقوة. فقد استطاع حزب الله بسهولة أن يرجف خصومه، والآن دوره لكي يساعدهم على الرضوخ أكثر ويتيح لهم أن يتنازلوا من تلقائهم. إنه يفتح لهم منافذ ليتراجعوا على رسلهم وبدون أي مظهر للفرض.
لقد جعلهم انتصارا سهلا في حال ارتخاء كهذا، وبوسع ملاطفة غير مكلفة ولا مشروطة أن تفعل بهم أكثر. تبادل بضع مجاملات طيّر تقريبا النزاع. إنها مسألة أجواء، ومسائل شبه شخصية، هكذا يمكن لعقل »المحاصصة« أن يعمل في الكبير والصغير. السياسة ليست عند ذلك إلا ذريعة، والرهان السياسي ليس شيئا، فما يوجد هو دائماً فوقه: أجواء ومسائل شخصية ومبادلات من أي نوع. لن يتعب السياسيون حزب الله.
بوسعه أن يظل يبيعهم أجواء ورسائل شخصية ومبادلات مجانية وهدايا غير مكلفة، فهذا أقل ما يتعلمه طرف في خبرته بالمفاوضات. طرف غرر بالإسرائيليين على طول باعهم وصبرهم في هذا المجال، هذا أقل ما يستطيعه حزب يعرف كيف يضع السياسة في مواضعها، كيف يتصرف على مستوى البلد وعلى مستوى المرحلة وعلى مستوى تحالفاته وعلى مستوى أفقه الاستراتيجي.
لا بد أن حرب بيروت كانت حرجه الأكبر، لكن خصومه وضعوها بالتساوي مع »أجوائهم« ومسائلهم الشخصية ومبادلاتهم الكلامية. في ال»فوق سياسي« الذي كل ما فيه متساو عرضي سيّار.
هكذا غدت حرب بيروت واحدة من حوليات السياسة اللبنانية ومثلها مثل كل الركام السياسي عابرة وعرضية. مثل مثلها كل الركام السياسي يمكن القفز فورا الى ما قبلها أو ما بعدها. استعجل خصوم حزب الله أكثر منه تقريباً دفعها الى الخلف.
استعجلوا طيها من دون محاكمة. لم يعتذر حزب الله وليس من عادته أن يعتذر. كان التفافهم حول حزب الله في الاحتفال بعودة الأسرى أشبه باعتذار مضاد. في عيد النصر الإجماعي أغلقت صفحة حرب بيروت من تلقائها، لقد أنسيت واستعجل خصوم الحزب نسيانها وكأنها ورطتهم التي انتظروا أول فرصة له للتنصل منها.
كانت حجتهم تقديم المستوى الوطني، لكن المزايدة على حزب الله في شأن كهذا عبث، والذي رجح هذه الحرب هو حقا ورطة خصوم حزب الله الذين لا يملكون أي عقل استراتيجي لمواجهتها، ولم يتحسبوا لهذا المستوى من الصراع. لم يملك معظمهم حيالها سوى الذهول الذي استفاق بعضهم منه بإحساس ثقيل بالعجز تمنوا معه لو أنها لم تكن، وربما تصرفوا على هذا الأساس.
يظن السياسيون اللبنانيون أن لا تاريخ للسياسة في لبنان وان كل ما فيها عرضي وماثل للنسيان. كان يمكن لهذا أن يكون صحيحا لولا أن الصراع يملك ذاكرة يصعب التحايل عليها. منذ انسحاب الجيش السوري يقايض حزب الله المياومة السياسية لمعظم خصومه بسياسة استراتيجية.
كان التحالف الرباعي فرصة لحزب الله بعد الخروج السوري ليأمن من عزلة محتملة، فيما لم يكن لفريق 14 آذار سوى تخريج انتخابي على حساب أي وضوح سياسي، إنها بداية تثبتت في السياق وظلت ذيولها تتردد فيه، اذ لم يخرج فريق 14 آذار من حال المياومة التي هي الإرث المداوم لممارسة سياسية لبنانية وصلت أثناء الوصاية الى آخر دركاتها. كان هذا الفريق هو الوارث الأساسي للتقليد السياسي اللبناني الذي لا يفتقر الى شيء قدر افتقاره الى استشراف وطني ومرحلي، وقدر افتقاره الى أي خطة وأي أفق مستقبلي، فزمرة 14 آذار هي تقريبا الطبقة السياسية اللبنانية بسياستها التي تتقطع بين الطوائف والمناطق والأحياء والزعامات الشخصية.
أمكن مع ذلك، لهذه المجموعة مع وصول الصراع الى مستوى المجابهة بين مشروعين ووجهتين، أن تلتقي على سياسة واحدة ووجهة مستقبلية. لكن ما افتقرت اليه هو إدارة الصراع على المستوى نفسه. كان وجودها في الحكومة هو النموذج الوحيد الذي تقدمه، ولم تنجح فيه على الإطلاق في بناء نموذج، ولم تكن فيه سوى الوارث التقليدي الذي لا يتخطى احتكار الدولة أو الاتجار بها.
إنها المحاصصة التي يجري فيها الجميع، لكنها كانت واجهة 14 آذار التي جعلت من الحكومة حصنها المكشوف ونموذجها الذي يفضح كل مرة عجزها وترددها وضعفها. كانت الدولة التي اعتبرتها 14 آذار خندقها وجبهتها هي ايضا معيار الضعف والمنافعية والفشل اليومي. في حين كان خصومها يقدمون من خارج الحكومة نماذج زاهية وأكثر إفحاماً.
نموذج حزب الله المعسكر الصلب الهجومي المتراص هو بالتأكيد أقوى تأثيراً، فيما نموذج التيار الوطني الحر الشبابي المتميز اجتماعيا أقوى جذبا. لم يكن تيار المستقبل ولا الحزب الاشتراكي بهذا التميز، فيما منع التنازع المسيحي بين قوى 14 آذار من بروز قطب فعلي.
لم تكن الحكومة بالتأكيد سوى النموذج الذي يسهل تلطيخه وتسهل إصابته، ولم يكن التشبث به إلا ليزيد من هشاشته، فقد كان باستمرار في المرمى وباستمرار تحت الامتحان والمواجهة، ولم يكن يسعى من كل هذه المواجهات إلا للخروج سالما لحصر الخسائر، فالانتصار لم يكن في مطاله على الإطلاق.
ناهيك عن أنه تحمل عبء كل الإرث السياسي المكروه، فالحكومة هي المعادل الأول لكره السياسيين والفساد الحكومي والإداري والتكالب اللبناني الطائفي والمناطقي، وهي لهذا لا تقدم للمتترس بها إلا بيتا من زجاج يمكن رشقه وإصابته كل لحظة.
حتى حين كانت تظاهرات 14 آذار هي الاكبر، كان واضحا أن الحكومة ليست الاطار الكافي أو المطابق لحركة كهذه. كانت الشرعية قوة بلا ريب لكنها في بلد خارج من الحروب والوصايات كلبنان بدون أي رصيد تاريخي، فقد بقيت دائما في المهب ودائما تحت السؤال. لذا لم يسعها أن تحمي الحكومة ولا أن تتحول هي الى قضية بحد ذاتها.
لم يكن تاريخها الهش يكفي لأن تتحول الى حد للصراع وان يدور هذا ضدها أو معها. أرادته 14 آذار (أي الصراع) أن يكون منازلة بين الشرعية والانقلاب ولم يكن الرصيد السياسي للبنانيين كافيا لذلك. لم يكن النضال في سبيل الجمهورية أو الدولة أو الديموقراطية في يوم تقليدا نضاليا لبنانيا، فالواضح أن ما لم يتصل بنعرة لا يمكن أن يستقطب في لبنان.
الاستقلال والجمهورية والديموقراطية والدولة صافية بدون أن تتصل بنعرات مذهبية أو مناطقية لا تحرك جمهورا جامعا. لقد غدت الدولة قضية جزئية وغدت الشرعية قضية جزئية والاستقلال قضية جزئية. هذا ما جعل التنازع عليها سهلا وقابلا للشطح والانزلاق الى حد الانقلاب والتجاوز. بل هذا ما جعل ممكنا تصور شرعية داخل الشرعية أو ضدها، دولة داخل الدولة أو فوق الدولة أو ضدها ايضا.
كانلخروج الوزراء الشيعة من الحكومة أن اعترفت هذه فورا بأنها ناقصة وبتراء. لقد صارت بإرادتها وإقرارها نصف حكومة أي نصف شرعية ايضا، ولم يعد ممكنا أن نجعل من حكومة، تقر على نفسها بالنقص، قضية كاملة.
لم يعد ممكنا أن لا تحمل القوى المجابهة شيئا من الشرعية وان يحمل محل الشرعية تنازع على الشرعية، وان يجعل هذا التنازع من الانقلاب نفسه شرعية مضادة.
لم تستكمل الحكومة نفسها ولم تقبل بالثلث المعطل شرط المعارضة للعودة، فوجدت نفسها لا هنا ولا هناك، نصف سلطة. ولم تكن كذلك لعدم اكتمال وزرائها فحسب بل تجسد هذا النقص أكثر على الأرض.
كانت ناقصة بالتأكيد على المستوى العسكري والاداري حيال تفوق حزب الله في المجالين. لم يكن النقص رمزيا ليبقى رمزيا، ولم يكن النزاع صوريا ليبقى صوريا. لقد كان بالقوة المباشرة أو المستترة.
وحسم بالقوة المباشرة أو المستترة، كان للنزاع وجهه العسكري من البداية. حين تم التخييم في »الداون تاون« لم يكن أحد يجهل أن الحكومة رضخت تحسبا لقوة حزب الله. لكن أحدا لم يفكر بأن الاحتلال يومذاك ولو بدا سلميا هو »البروفة« الاولى لاجتياح بيروت في ما بعد.
لقد كان هذا من البداية عرض قوة. لم تجهل الحكومة الناقصة ذلك، لكن لأنها ناقصة قبلت هذا التقاسم الأولي للسلطة. وما جرى بعد ذلك كان تراجعا عن كل مطرح تحل فيه المعارضة، الى ان كان سقوطها بعد معركة أيار.
نعرف طبعا استحالة الظرف وقلة، بل انعدام، الخيارات، لكن الحكومة بترددها وممارستها الطويلة كنصف سلطة وتقاسم سلطتها التدريجي والمتصاعد مع غيرها أوجدت المسار الذي في نهايته لم تدافع عنها شرعيتها ولا سلطتها. لقد تكلمت كسلطة فيما تصرفت دائما أقل بكثير من ذلك.
إنها المفارقة الطويلة التي جعلت شرعيتها وسلطتها معا تحت السؤال وجعلتها تخسرهما بالتدريج الى الحد الذي لم يستفز الأغلبية التي تتكلم باسمها، ولم يجعل من الاستيلاء عليهما وعلى العاصمة ايضا قضية تستدعي انقلاب الجمهور.
لقد اعتاد هذا رؤية الشرعية تترنح والسلطة تتناقص على مدى أعوام، فلماذا يثور لما تحملته السلطة نفسها واعتادته وجعلت جمهورها يسلم به ويعتاده معها؟ ما من اقتراحات بالطبع، لكن ما اختارته الحكومة هو تماما الأمر الواقع الذي غدا تبريرا ضمنيا للأمر الواقع كله.
اختارت النصف سلطة بدون المبادرة الى أمرين أحدهما مجازفة، كانت في أسوأ الأحوال تسمح مبكرا بطرح مسألة السلطة والشرعية قبل الاستنزاف الهائل الذي تعرضا له وغدوا معه بلا سؤال. (أي استكمال السلطة). والثاني هو التسليم المبكر الذي لا يجعل من نصف السلطة هدفا لتآكل مثابرين وافتضاحهم (أي القبول بالثلث المعطل).
لم يكن أمام الحكومة خيارات فضلى لكنها اختارت الأسهل والأسوأ ايضا. لقد كانت سياسة السلطة طوال عامين تقريبا مجرد ممانعة للمعارضة. لا أقول ممانعة تظرفا، فالمعروف أن هذا هو شعار المعارضة نفسها، لكن الحقيقة أن المعارضة كانت طوال الوقت في موضع الهجوم والسلطة في موضع الصد.
لقد كان الثلث المعطل ذريعة لمعركة أظهر فيها حزب الله قوة لا قبل للحكومة بها، ومع الوقت غدا تآكل السلطة واستعراضها قوة المعارضة، سنّة. لا بد أن قوة حزب الله أساس في سياسته، لكن الهجوم طبع فيه لا تملكه المعارضة.
انه هجوم غالبا ما يجعل الخصم ضعيفا ويزعزعه ويؤدي الى استيلاء سهل أحيانا على مواقعه. هكذا خسرت السلطة في الهجوم مواقعها، بما في ذلك شعاراتها ومواقعها السياسية تحت ضغط الهجوم بدون أن تملك سوى صده.
الممانعة هي سياسة الحكومة، إنها دفع الهجوم تلو الهجوم، وليس إصرارها على رفض الثلث المعطل سوى شعار هذه الممانعة. يمكننا الآن أن نفترض ان الممانعة ستكون ايضا سياسة الحكومة المقبلة، اذ ان خطاب القسم نفسه ليس سوى خطاب ممانعة.
ليست الممانعة هي الخلط الاول الذي نصادفه، وليست الاضطراب الاول في التسميات التي أحيانا تكون معكوسة. فهناك المعارضة والسلطة، ولم تكن المعارضة كذلك إلا بالاسم ولا السلطة ايضا كذلك إلا بالاسم ايضا، فمساجين السرايا ومساجين فينيسيا كانوا لا يحملون من السلطة أكثر من لقبها.
ومن الواضح أن الذين كان في مقدورهم في اللحظة التي يشاؤون، محاصرة السرايا وتعطيل المطار والمرفأ وتحييد قوى الأمن والجيش ورمي خصومهم في السجون أو البحر كانوا يملكون من السلطة أكثر مما يملك من يحملون لقبها.
يمكننا لذلك أن ننتهي الى ان السلطة والحكومة غير متطابقتين كما يخطر لأول وهلة، انه تطابق لغوي فحسب لكنه يسمح بأن نبدو كل مرة نتعرض فيها للسلطة وكأننا نصوب على الحكومة. اننا ننتقد الحكومة لعجزها عن بسط القانون على مناطق أو مجالات تتنازعها سلطات اخرى، هكذا يبدو أننا نتهم الحكومة بأنها لا تمارس السلطة حيث لا تستطيع أن تمارسها أو هي في أيدي سلطات اخرى لا نتهمها أو لا نقدر على اتهامها. كان العماد عون يتهم الحكومة بأنها لا تحمي المستشهدين من أعضائها أو أنها لا تكشف قتلتهم.
لعل المسألة بالطبع ليست لغوية وان كانت تتوسل الخلط اللغوي للتشويش السياسي. من الواضح أن الهجوم هنا ايضا، المهاجم يغزو لغة الآخر ويحتلها والمهاجم (بفتح الجيم) يكتفي بأن يمانع، انه يصد عن مواقفه التي يجعلها التشويش في أحيانا متقاسمة مع الخصم. هكذا مثلا تغدو مفاهيم الاستقلال والسيادة والوصاية والدولة متداولة من الجميع، ان المهاجم (بكسر الجيم) يحتل لغة الخصم فتفتقد هذه حصانتها وتغدو المفاهيم المتداولة بلا ثقل ولا هيبة ولا حصانة.
لكن أحدا لا يستطيع أن يتقاسم مع حزب الله »المقاومة«، فرغم ان للمقاومة تاريخا ليس موقوفا على حزب الله، إلا أن حزب الله احتكره. حزب الله هو ذاته تحت اسم المقاومة وتحت اسم شعب المقاومة. انه تحت أسمائه العديد (الله، المقاومة، شعب المقاومة) تابو لا يخترق ولا يمس.
إنه »تابو« في إضافة الاسم الى الله. كما هو تابو في كنايته عن المقاومة وشعبها. انه من ناحية جيش الله ومن ناحية جيش الجماعة وفي الحالين لا يصاب الحزب بدون أن تنفذ الإصابة الى جسم الجماعة أو اسم الله.
في الحالين هناك التابو والتابو تحريم ولا يواجه كما يقرر فتحي بن سلامة بتحريم. لا يتحرم التحريم بدون أن يصيب هذا جسد الجماعة وبدون أن تشعر الجماعة بأنه اعتداء على جسدها. هكذا لم ينفع الهجوم على »المقاومة« إلا في مسّ التابو المتحد بجسم الجماعة واستفزازها أكثر الى توطيده ونصبه. ليست مفاهيم الاستقلال والدولة والسيادة بهذه الحصانة.
لقد جعلها هجوم حزب الله مشاعا وأخرجها الى إباحة تامة انفصلت بها عن جسم أي من الجماعات اللبنانية. لم ينفع العماد عون كثيرا نعيه للفساد ومساءلته للحكومة عن خدمات عامة فلجأ الى تابو آخر »حقوق المسيحيين«.
لا نفهم ماذا أصاب فريق 14 آذار بعد حرب بيروت إلا بالانتباه الى أن معركة بيروت كانت الهجوم الأخير في أعقاب حرب طويلة على قلعة أنهكها الحصار. لقد حارب الفريق حربا دفاعية اضطرته الى التراجع شيئا فشيئا.
لا يمكن أن نفصل معركة بيروت عن اعتصام الأسواق، فالأرجح ان الاعتصام كان بداية هجوم وضع حزب الله فيه قوته الجماهيرية والعسكرية في كفة واحدة.
واجه فريق 14 آذار بشرعية تآكلت بالتدريج على الطريق. وبنصف سلطة لم يجرؤ على تعديها، وبحكومة لم يتوقف عن التذكير بنقصها. لقد اعتمد على حبل وهمي بينه وبين المعارضة، وعلى أمر واقع ظنه خالدا رغم أن كل شيء كان ينبئ باقتراب نهايته. لقد تصرف بسلب فعلي واعتمد على ما يتلقاه ويصل اليه بدون أن يختبر قواه الفعلية أو يعتمد عليها، فيما كان الفريق الآخر يستنفر قواه جماهيريا وعسكريا ويزيد فعاليتها كل يوم.
بدأ فريق 14 آذار وفي يده كل شيء. الأكثرية الشعبية والدعم الداخلي والدولي والعربي، ولم يفعل سوى التفريط بقواه لأسباب ليست جميعها موضوعية ولا إجبارية. كان للتقدير الجاهل وللغطرسة وللمصلحة الضيقة والمياومة السياسية دخل كبير في كل ذلك. في سكرة الانتصار خامرت بعض أطرافه أحلام سيطرة تتعدى المعادلة اللبنانية كاستتباع الجبل لزعامة درزية وإقصاء قيادات قوية كإيلي سكاف وعزل قوى راسخة كالطاشناق.
انها سكرة المنتصر لكنها في نزقها اتعظت حساسيات جهات لم تخطئ حين توجست بأن المطلوب منها استتباع بلا مقابل. فوق ذلك، تترّس فريق 14 آذار بالدولة التي جعلته مكشوفا بدون أن يقدم، رغم تبجحه بها، أي نموذج مختلف.
كان السلم الأهلي والإقليمي مشروعه لكنه لم يحسن أن يجعل منها خطابا عابرا للجماعات ولم ينجح في أن يلحق به فئات غايتها السلم، اذ لم يجرّئها ضعفه على أن تجازف بالانشقاق أو الاستقلال في جماعاتها. كما لم ينجح في أن يوفر مكانا بديلا لمن يجازفون بالاستقلال. كان الاستيلاء على بيروت هزيمة بالتأكيد، لكنها هزيمة لمن يقاتلون.
بالنسبة لسعد الحريري كانت معلنة منذ وقت بعيد، أما بالنسبة لمقاتل كوليد جنبلاط فلا تقع الهزيمة بدون قتال وينبغي الحؤول دون وقوعها. قد ينفع استسلام ظاهري في عدم قيامها أو تأجيله على الاقل.
يعرف وليد جنبلاط أنهم لن يقبلوا بأقل من استسلام كامل بديلا من الهزيمة، ولن يتأخر عن تقديمه لهم.
يعني ذلك الخروج من فريقه والقبول المجاني بتنازل سياسي مطرد. سيكون هذا كافيا وأكثر من كافٍ ولا سبيل معه لمعركة جبل أخرى. المقاتل يهمه اولا أن ينجو بجيشه وهذا ما فعله وليد جنبلاط. لا بد أن تقديره للوضع الدولي حفزه الى ذلك.
فهو، كما نعلم، في ارتياب مستمر بانقلاب الاميركيين وإعادة توكيل سوريا بلبنان. المفاوضات السورية الاسرائيلية قد تدخلنا في فترة انتقال لن يلاحظ أحد فيها الرؤوس التي تطير. ربما لم تكن معركة بيروت أساسا كما بدا، مجرد تهويل عسكري لتعديل التوازن السياسي.
ربما كانت في الأساس بداية استقلال عن سوريا والتحصن بلبنان، ما يعني اولا السيطرة العسكرية والتأكد من نزع سلاح شامل للخصوم. ولن يسمح ببقاء أي سلاح إلا بالتأكد انه لن يستعمل في أي معركة ضد الحزب.
بين حزب الله وسوريا قد يكون جنبلاط اختار الحزب. إنها جولة افتراضية في عقل وليد جنبلاط، لكن لا شيء يؤكد أن انسحاب وليد جنبلاط قد يوفر عليه شيئا.
سعد الحريري يبدو انه قد اجتاز الهزيمة وغدا أمامها، أظهر الشاب، على غير توقع، فطنة حقيقية وتصرف بسرعة كزعيم للأكثرية.
في يوم واحد تقريبا أعاد توحيدها، وفي سبيل ذلك بدا مستعدا ليدفع من حصته وليقبل حتى في زعامته شراكة نسبية. أما اللافت فهو زيارته للنجف واجتماعه بالإمام السيستاني، إنها تذكير بتجربة شيعية أخرى معاكسة للتجربة اللبنانية.
تجربة بدأت تنجح في إعادة الأمن والنظام ونزع فتيل الحرب الأهلية. فيما لا يمنع الاحتفال اللبناني من إدراك أن لبنان كله في مأزق، وفي وضع كهذا لا يمكن الكلام بثقة عن نجاح أي فريق. اذا كان لبنان ضعيفا ومهددا فماذا تنفع أي قوة وأي انتصار؟
عن صحيفة السفير اللبنانية
28/7/2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.