فى خطاب محموم وتجييش لكل القوى الصهيونية والأمريكية و"القوى الصديقة" لهما جرى تصوير الأحداث التى شهدتها لبنان فى المرحلة الأخيرة باعتبارها صراعا بين الشيعة والسنة، وقد لاقت هذه المحاولة التضليلية أذانا وأقلاما وشاشات كثيرة للترويج سواء بالمقاولة أو بالقطعة، وكالعادة روجت عواصم "الاعتدال العربى" المشؤوم القاهرة والرياض وعمان وكتاب السلطة فيها لهذه الخدعة، وانبرى كتبة السلطان فيها يولولون ويبكون على تغلغل النفوذ الإيرانى فى لبنان، ووصول طهران إلى مياه المتوسط، ومخاطر زيادة قوة حزب الله على معادلات القوة الإقليمية .... إلخ، فما هى الحقيقة ؟! وهل هى مخالفة لهذه الصورة؟! هل ما يحدث فى لبنان هو صراع طائفى بأى قدر وبأى مقياس؟! منذ ما يزيد على العام نشرت فى مقال على صفحات جريدتنا "الشعب" تحذيرا لكل القوى اللبنانية الشريفة من مؤامرة يعد لها عملاء الصهاينة فى لبنان، تتضمن تدريبا لعناصر مرتزقة "تم على أراضى إحدى دول الاعتدال " وتسليح أمريكى بتمويل سعودى لتلك العناصر وأن ثلاثة من الشخصيات الأساسية فى قوى 14 آذار تقف خلف هذه المغامرة " الحريرى الصغير.. ووليد جنبلاط.. وجعجع" ، وكانت صحف الكيان الصهيونى قد نشرت معلومات موثقة عن تعاون دول الاعتدال مع " قوى الأغلبية اللبنانية " لتنفيذ القرارات الخاصة بنزع سلاح المقاومة للدفع " بعملية السلام " كما يسمونها.. وقد جرت فى النهر مياه كثيرة منذ ذلك التاريخ وتعددت أنواع الضغوط وأشكالها، سواء من معسكر الموالاة أو المحيط العربى أو الكيان الصهيونى الذى وصل بالأمر إلى حد الحرب المفتوحة التى هزم فيها شر هزيمة لتشكل هذه الضربة، الانفراد الثانى للمقاومة اللبنانية فى تاريخ الصراع العربى الصهيونى بعد إخراج قوات الاحتلال الصهيونى من الأراضى اللبنانية بالمقاومة ودون أية تنازلات، ودون أى دور للمنظمات الدولية.. والرباعية.. والراعى الرسمى للصراع "أمريكا"، وطاولات المفاوضات التى لا تنتهى. هذا هو أصل الصراع.. صراع بين المشروع الأمريكى الصهيونى بإنشاء "الشرق الأوسط الأمريكى الكبير"، والذى أعلنت عنه رايس وأكدت أنه يحتاج إلى تغييرات كبيرة فى المنطقة.. حدث هذا عشية الحرب الصهيونية التى هزمت فيها المقاومة العدو الصهيونى هزيمة غير مسبوقة أثبتت عدم قدرة هذا الكيان وجيشه على خوض حرب طويلة.. وبين خط المقاومة الذى كشف عورات رأس الحربة فى المشروع الصهيونى العالمى، كما ضرب مثالا وحقق نموذجا يخشى أباطرة البيت الأبيض وجرذان تل أبيب، وعواصم "الاعتدال العربى" ، يخشى كل هؤلاء أن تعتمد الشعوب هذا النموذج بعد كل الإحباطات التى ألمت .. وكان لابد لها أن تلم .. بمسيرة التبعية للعدو الاستراتيجى لأمتنا، والتنازل عن الثوابت والحقوق.
من هم معسكرى الصراع ؟! محاولة العملاء والأقلام المغموسة فى النفط والمستسلمين لإرادة العدو تصوير الصراع باعتباره صراعا شيعيا سنيا قد فشلت رغم الدعم الإعلامى والسياسى والمالى غير المحدود، ونظرة سريعة إلى فصائل طرفى الصراع تضع إجابة سريعة وواضحة لهذا التساؤل الذى أرادوا له أن يصبغ المسألة برمتها، فمعسكر "الموالاة" (ولم يقل لنا أحد منهم موالاة من) يتكون " مجازا " من مسيحيين ودروز وسنة.. ومعسكر المقاومة ( ولا نقول المعارضة.. تصحيحا للمفاهيم ) يضم سنة وشيعة ومسيحيين ودروز، الأمر إذن ليس سنيا شيعيا كما يحاولون الإيهام، رغم كل محاولات العميلين وليد وجعجع الدفع بصورة الحريرى الصغير إلى مقدمة المشهد، وإلا فليقل لنا أحد بأن العماد عون شيعى وأن طلال شيعى وأن الحزب القومى شيعى، وأن مفتى السنة فى لبنان قد تشيع هو الآخر. والسؤال الأهم هو .. ما هو موضوع الصراع ؟! هل هو صراع مذهبى أو عرقى ؟! أم أنه صراع يتمحور حول دور المقاومة ؟! وهل انتهى دورها ؟! وطبيعة ونوعية العلاقة مع القوى الإقليمية والدولية المتداخلة فى لبنان ؟! وهل انتهى التهديد الصهيونى والأمريكى للبنان ؟! ناهيك عن النظر لهذا التهديد من زاوية إنتماء لبنان للأمة العربية ؟! أعتقد أننا لا نحتاج إلى إجابة لهذه الأسئلة فالجميع .. الموالاة وأشياعها .. قبل المنتمين إلى خط المقاومة يعرفون إجاباتها!!
درس للمعارضة العربية عله يجد من يسمع !! لا شك أن حزب الله هو قائد فصيل المقاومة وممثله وصاحب الثقل الرئيسى فيه، ولا يجهل أى قادر على القراءة أنه يمتلك من القوة العسكرية على الأرض، والخبرة أيضا، والمعلومات عن المؤامرات التى تحاك لمشروع المقاومة ما يبرر له .. ولو داخليا وضميريا .. حسم الصراع على الأرض والضرب على أيادى العملاء الذين يمتلك مستندات خيانتهم، أو فى أفضل الأحوال تناغمهم مع أهداف المشروع الصهيونى الأمريكى، وعلى مدى عامين ونص العام توفرت لدى حزب الله العديد من المناسبات والفرص والوقائع التى تمكنه من هذا.. فلماذا لم يفعل؟!!
أولا: لأن حزب الله ومعه جبهة المقاومة يدركون حقائق الصراع الاستراتيجية، ويعرفون أن هذا الصراع طويل ولا يحسم بالضربا القاضية، وأن العدو الحقيقى فيه ليس أولائك الدمى التى تحركها قرارات البيت الأبيض وتل أبيب، وأن إهدار قوى المجتمع اللبنانى بكل مكوناته هو الهدف من تحريك العملاء، وأن رصيد هذه القوى هو رصيد ضرورى فى معركة الأمة الطويلة المدى.
ثانيا: أن الهدف الاستراتيجى المعلن لخطة الأعداء فى المنطقة هو تقسيمها على أسس عرقية وطائفية ومذهبية، بحيث تستوعب كل قواها فى حروب جزئية تبعد طاقات الأمة عن التوجه إلى مواجهة العدو المباشر ( الكيان الصهيونى ) والعدو الرئيسى ( الإمبراطور الأمريكى )، وحزب الله ومعة جبهة المقاومة حريصون على إحباط هذا الهدف.
ثالثا: حتى لا يمكن لهؤلاء العملاء إلباس الحق بالباطل تحت عناوين براقة، ودعاوى تجد أذنا صاغية بشعارات مذهبية أو عرقية أو طائفية.
وقد كانت تحركات جبهة المقاومة فى الأزمة الأخيرة نموذجا يدرس لطلاب المعارضة فى بلادنا .. فرغم الطابع السياسى المباشر للقرارات المحركة للأزمة، والاستهداف الواضح لسلاح المقاومة، فقد تحركت المقاومة وفقا لمجموعة من المبادئ نرى أنها كانت الحاسمة فى الانتصار الجديد الساحق على معسكر الأعداء، والذى يزيد فى أهميته وآثاره القريبة والبعيدة المدى على النصر العسكرى الكبير الأخير على جيش الصهاينة.. وهذه الالمبادئ هى: التحرك بكل قوى معسكر المقاومة، وبكل طوائفه دون استثناء ودون استبعاد. أن يكون التحرك الأساسى مدنيا (عصيان مدنى) وعبر مؤسسات المجتمع المدنى (إتحاد العمال اللبنانى). أن لا يتعرض التحرك لأشخاص، بل يتم التركيز فى الحركة على وضع الحكومة العميلة أمام الأسئلة التى لا تستطيع أن تجيبها، أو تجيبها على طريقتها فتثبت صحة موقف المقاومة. أن لا تبدأ المقاومة باستخدام السلاح، ولا يتم إستخدمه (رغم دقة المعلومات عن مجموعات المرتزقة التى حركها العملاء) إلا للدفاع عن الشعب اللبنانى ضد إعتداءات الميليشيات العميلة، أو الدفاع عن سلاح المقاومة.. وفى أضيق الحدود. التنسيق مع الجيش اللبنانى الممثل الباقى لشرعية الدولة، وتسليمه المواقع التى يتم تأمينها من أعمال المرتزقة، وتسليمه المقبوض عليهم بعد تصوير إعترافاتهم لمحاكمتهم أو التصرف بشأنهم وفقا للقانون. لقد أرادت خطة توتيرالأجواء التى قادها العملاء إفقاد سلاح المقاومة مشروعيته فى عيون الشعب اللبنانى، أو إظهاره بمظهر المتراجع أمام هجمة لم يخفى العملاء أنها بإعاز ودعم من الصهاينة والأمريكان، بل ووصل الأمر إلى التصريح على لسان ديفيد وولش بأن صيفا ساخنا سوف تشهده بيروت، وأحيط هذا التصريح بالدعاية اللازمة من معسكر "موالاة الأعداء"، فصعد العملاء من خطاباتهم الاستفزازية وركزوا الهجوم على سلاح المقاومة ورموزها، وارسلوا الإشارات عن موقف "المجتمع الدولى" الداعم لتوجهاتهم، ثم أعلنوا توجههم لتدويل المشكلة وطلب قوات طوارئ أجنبية. وكانت توقعاتهم تنحصر فى خيارين أمام المقاومة لا ثالث لهما: إما دخول المقاومة فى مواجهة مفتوحة مع عناصرهم تحولها من قوة للدفاع عن لبنان وشعبه إلى قوة سياسية تستخدم العنف ضد مخالفيها.. وهو ما يسقط الشرعية عن سلاح المقاومة.. وإما أن تتراجع المقاومة أمام الضغوط الداخلية والإقليمية (العربية) والدولية فتفقد أحد أهم دعائمها الفنية من الناحية العملية (شبكة إتصالاتها)، وتفقد المصداقية من الناحية السياسية. وقد تمثل نصر المقاومة المؤزر على هذه المحاولة فى اختيارها الطريق الثالث، الطريق الذى يرد المشروعية والشرعية إلى أصحابها الحقيقيين وليس من يهبهم الأعداء هذه الصفة، فتحركت مع الشعب وبالاستناد إلى قواه بكل طوائفه ومذاهبه، ولم تستخدم القوة بادئة .. ولم تستخدمها إلا بقدر إحباط الاعتداء. لقد أدت المؤامرة الفاشلة الأخيرة فى لبنان إلى تغيرات حاسمة فى موازين القوى لصالح المقاومة، وقد تؤدى هذه النتائج إلى تراجع العديد من المخططات الصهيو/أمريكية فى المنطقة أو تأجيلها على الأقل، كما فتحت أفقا للبنان عربى مقاوم واضح الهوية لم يكن مطروحا حتى وقت قريب.. لقد حركت أمريكا أساطيلها دعما لمعسكرها المرابط فى لبنان ولم يعد لدى أحد الحق فى أن يتوهم أن طرفى الصراع فى لبنان يقفان على قدم المساواة، كوجهتى نظر للمصلحة اللبنانية .. فالعمالة ليست وجهة نظر!! بقى أن نقول أن بعض الشرفاء قصيرى النظر ينساقون خلف الدعاية الأمريكية والصهيونية الهادفة لمذهبة الصراع ، وهؤلاء لم يعد لديهم ما يعذرون به بعد كل ما تكشف وما صرح به رؤوس الفتنة أيام ظنوا أنهم منتصرون. وعلى قادة وكوادر المعارضة العربية أن يفهموا دروس هذا النصر، وأهمها أننا أمام صراع طويل يختلط فيه الداخل بالخارج وأبناء جلدتنا بالأعداء، وهو صراع يحتاج إلى الحكمة أكثر من العاطفة الهوجاء والشعارات الجوفاء والأعمال المندفعة غير المحسوبة.