وريث تشرشل يزور واشنطن الياس حرفوش يسير غوردون براون، رئيس حكومة بريطانيا، على حبل مشدود بالغ الدقة، بين رغبته في سياسة اكثر استقلالاً حيال الولاياتالمتحدة عن تلك التي سار عليها سلفه توني بلير، وبين المهمة التقليدية لبريطانيا كحارس للنفوذ الاميركي على البوابة الاوروبية. وفي زيارته الاولى لواشنطن كرئيس للوزراء، سيضطر براون الى استخدام كل الحذاقة الديبلوماسية الممكنة ليثبت لمضيفه أن بريطانيا باقية على العهد، وخصوصاً في العراق، حيث لا يحتاج الرئيس بوش الى «خسائر» اضافية، بينما يناقش الكونغرس بمجلسيه تجميد تمويل القوات الموجودة هناك، وتتزايد الدعوات، من السياسيين والمعلقين الاميركيين، الى انسحاب سريع. لكن الرسائل التي سبقت زيارة براون دفعت المحافظين في ادارة بوش الى الحذر جدياً من سياسة بريطانية جديدة، ليس في العراق وحده، بل في مناطق النزاع الاخرى التي تعني واشنطن في هذه المرحلة، وعلى رأسها الوضع الايراني. من هذه الرسائل اللغة الجديدة التي تستخدمها حكومة براون في حديثها عن الاعمال الارهابية، كالتي شهدتها بريطانيا نفسها مؤخراً، واسقاط تعبير «الحرب على الارهاب» من القاموس الجديد، والحرص على «كسب العقول والقلوب»، وهو التعبير الذي استخدمه براون، في المواجهة مع الجماعات الاصولية المتطرفة. الى ذلك كان تعيين اللورد مالوك براون في وزارة الخارجية ليعمل الى جانب الوزير ديفيد ميليباند مؤشراً آخر. فمالوك براون الذي كان نائباً للامين العام للامم المتحدة كانت له تحفظات معلنة على سياسة الادارة الاميركية في العراق، كما كانت لميليباند انتقادات لموقف الحكومة البريطانية (التي كان عضواً فيها) لدعمها المطلق لاسرائيل في حربها على لبنان في الصيف الماضي. امام هذا لم يكن مفاجئاً أن يسعى براون الى ازالة ما امكن من غموض حيال سياسته الاميركية الجديدة. فاذا كانت مظاهر هذه السياسة ستكون مختلفة في ظله، مقارنة بالعلاقة الشخصية الوثيقة التي قامت بين بوش وبلير، فإن الطبيعة الاستراتيجية للعلاقات البريطانية - الاميركية لا تحتمل تغييراً كبيراً. ولذلك كان مثيراً للاهتمام أن يذكَر براون بأنه يرث وصية سلفه في رئاسة الحكومة البريطانية ونستون تشرشل، الذي اعتبر ان الاساس الاستراتيجي الذي بنيت عليه هذه العلاقات يقوم على احترام الحريات وحقوق الانسان، وهو أساس كان ثابتاً ايام تشرشل تحت ضغط المواجهة مع النظامين الشيوعي والنازي، ولا يزال ثابتاً اليوم مع الاخطار الجديدة التي تتعرض لها الحريات في العالم على يد الاصوليات ونزعات التطرف. وفي ما يشبه الرد على المشككين في طبيعة العلاقة الجديدة بين لندنوواشنطن، يقول غوردون براون إنها ليست فقط قوية اليوم، بل يمكن أن تصبح اكثر قوة في السنوات المقبلة. فالخيارات الاخرى ليست خيارات واقعية امام لندن. واذا كان لكل من المانيا وفرنسا، القطبين الاساسيين في الاتحاد الاوروبي، سياستهما الخاصة في ما يتعلق بنزاعات العالم، وفي مقدمها الشرق الاوسط، فإن بريطانيا لا تملك مثل هذا الترف الديبلوماسي. المساحة التي تبقى متاحة امام لندن للتحرك ضمنها هي مساحة تكتيكية. فبالنسبة الى العراق تستطيع بريطانيا أن تخفف من اعبائها العسكرية في الجنوب، من دون أن تتخذ قراراً بالانسحاب الكامل، وخصوصاً في ظرف بالغ الصعوبة بالنسبة الى بوش الذي يرى «تحالف الراغبين» يتهافت من حوله الواحد بعد الآخر. وفي ازمة دارفور، تقف حكومة براون بوضوح مع مشروع القرار المطروح على مجلس الامن لنشر قوة مشتركة افريقية دولية في ذلك الاقليم. لكن الازمة التي يمكن أن تفتح باب النقاش الجدي في علاقات الحليفين ستكون الازمة مع ايران، وخصوصاً مع اقتراب الخريف المقبل، موعد النظر من جديد في مدى الخرق الايراني للقرارات الدولية. فإذا قرر بوش وفريق المحافظين في ادارته خوض مواجهة مسلحة مع طهران قبل نهاية ولايته، فستكون حكومة براون امام اول تحد حقيقي لمدى التزامها بالشراكة الحقيقية مع واشنطن التي سار عليها توني بلير من دون تردد في الحرب التي خاضها الى جانب بوش في العراق. عن صحيفة الحياة 31/7/2007