شهدت مدينة لاهاي الهولندية في الأسبوع الماضي مؤتمر الدول الأوروبية والمتوسطية الذي يضم دول الاتحاد الأوروبي إضافة إلي الدول العربية في جنوب وشرق البحر المتوسط وتركيا وإسرائيل. وبالرغم من أن القضايا السياسية مثل الأوضاع في العراق وفلسطين استحوذت علي جانب مهم من المناقشات والجلسات التي تواصلت علي مدي يومين إلا أن العلاقات الاقتصادية والثقافية كانت هي المحور بل والهدف الأساسي من المؤتمر الذي يجيء في إطار إعلان برشلونة سنة 1995. وقد استكمل المؤتمر مناقشة إنشاء المؤسسة الثقافية الأورومتوسطية لإحداث التفاعل والحوار الثقافي ودعم التفاهم المشترك والاحترام المتبادل وتأكيد مناخ الثقة بين الأطراف الأوروبية والمتوسطية. علي أن القضايا الاقتصادية هي التي تصدرت بالفعل المناقشات إذ تم إقرار خطة تحويل الاستثمارات والتمويل والمشاركة اليورومتوسطية وتسهيل الوصول إلي الأسواق في دول الاتحاد وزيادة المعدلات والحصص التجارية وذلك في ضوء تطلع الاتحاد الأوروبي إلي إنشاء منطقة التجارة الحرة سنة 2010 لتكون وسيلة لدعم التعاون الاقتصادي والتجاري. وإعلان برشلونة الذي صدر منذ حوالي ثمانية أعوام كان ومازال يمثل مشروعاً متكاملاً للشراكة له أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وقد تضمنت وثيقة برشلونة ثلاثة محاور رئيسية فهناك المشاركة السياسية والأمنية وتتضمن حقوق الإنسان والديموقراطية والاستقرار والأمن وعلاقات حسن الجوار مع نزع السلاح، وهناك المشاركة الاقتصادية التي تتضمن في الأساس إنشاء منطقة أورومتوسطية للتجارة الحرة وضمانات لتشجيع الاستثمارات الأجنبية والتعاون من الشركات في المنطقة في مجالات الطاقة والبيئة والزراعة والبحث العلمي. ثم هناك ما يتعلق بالمجال الاجتماعي والثقافي ويتضمن التعاون في مجالات التعليم والتنمية الثقافية والتنمية الاجتماعية بما في ذلك مواجهة الموبقات الاجتماعية مثل الجريمة المنظمة ومكافحة الفساد وتنظيم الهجرة، وفوق كل ذلك مكافحة الإرهاب. والتعاون اليورومتوسطي انطلق من قناعة أوروبية بأن عوامل الجغرافيا والتاريخ تجعل أوروبا هي الأكثر تؤهلاً للتعاون مع دول البحر المتوسط، بل إن واقع التشابكات الاقتصادية والسياسية الراهنة بين الطرفين يعكس ذلك بوضوح إذ يبلغ حجم التمويل الأوروبي للمشروعات المتوسطية حالياً أكثر من 30 مليار يورو وهو ما يوازي ثلاثة أضعاف التمويل الأمريكي في المنطقة. كما أن أوروبا أدركت منذ فترة أن مضاعفات الصراع العربي الإسرائيلي ألحقت أضراراً مؤكدة بالمصالح الاقتصادية والأمنية في أوروبا طوال العقود الماضية، الأمر الذي دفع أوروبا إلي اتخاذ مواقف متقدمة وإيجابية من أجل حلول عادلة تضمن للشعب الفلسطيني إقامة دولته المستقلة علي أرضه الوطنية كما أن دول الاتحاد الأوروبي في الواقع أكثر الدول المانحة في تقديم المعونات والمساعدات للسلطة الوطنية الفلسطينية. والعلاقة بين الاتحاد الأوروبي والدول العربية المطلة علي المتوسط كانت تحتل بنداً أساسياً لدي الطرفين وهناك بالفعل عدد من الاتفاقيات التي عقدت بين دول الاتحاد الأوروبي السوق الأوروبية سابقاً ومن دول مثل: مصر والجزائر وتونس والمغرب. وتعتمد دول الاتحاد الأوروبي علي دول البحر المتوسط في الجنوب والشرق في تزويدها بالطاقة التي تصل إلي 27% بالنسبة للبترول، و35% للغاز الطبيعي، كما أن أسواق تلك الدول تعتبر مجالاً مهماً للمنتجات الأوروبية إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي ودول المتوسط العربية أكثر من 150 مليار دولار وهو ما يوازي أكثر من 35% من حجم التجارة العربية مع الخارج. كما أن هناك تداخلاً اجتماعياً وسكانياً حيث يتواجد نحو سبعة ملايين من أصول عربية جاءوا من سواحل المتوسط الجنوبية والشرقية ويقيمون في بلدان الاتحاد الأوروبي خاصة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأسبانيا وهولندا، ويضم هذا العدد عمالاً وكوادر فنية عالية وأيضاً عدداً من المستثمرين الذين يلعبون دوراً مهماً في النشاط الاقتصادي لبعض دول الاتحاد. ولاشك أن هناك وخلال السنوات الماضية عوامل كثيرة ساعدت علي بلورة الشراكة البحرمتوسطية لدي الاتحاد الأوروبي وجعلتها أكثر إلحاحاً، وهناك المخاوف الأوروبية المشروعة من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في الشرق الأوسط خاصة بعد الغزو الأمريكي للعراق وبعد الممارسات التعسفية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني. ثم هناك الهجرات المكثفة التي تنطلق من بلدان هذه المنطقة الأقل تطوراً إلي الشمال الأوروبي، والتي أصبحت في حد ذاتها عاملاً يهدد الأوضاع الاقتصادية في تلك البلدان خاصة مع تزايد نسب البطالة والانكماش الاقتصادي الأمر الذي يجعلها منطقة طاردة للهجرة. لذلك أولت بلدان الاتحاد الأوروبي في ضوء استعراض المخاطر المحتملة في المنطقة أولوية خاصة للحوار السياسي والتعاون الاقتصادي والثقافي مع دول الجنوب بغرض مواجهة هذه المشكلات والمواجهة المشتركة لأخطار الهجرة والجريمة المنظمة والتطرف الأصولي. والاتجاه إلي الشراكة المتوسطية تواكب أيضاً مع الاتجاه إلي الانفتاح علي دول شرق أوروبا ووسطها والتي انضمت عشر دول منها إلي الاتحاد في مايو الماضي ووضع الخطط وتكثيف المساعدات المقدمة إلي هذه الدول، ويصب ذلك كله في تحقيق هدف أوروبي استراتيجي بعيد المدي لا يقتصر فقط علي الحلم القديم والذي بات وشيكاً في توحيد أوروبا من جبال البرانس في أسبانيا إلي جبال الأورال في روسيا. بل إن هذا الهدف الاستراتيجي يضع في اعتباره تأمين فنائه الخلفي المتمثل في دول الجنوب المتوسطية وذلك من خلال إقامة منطقة للتجارة الحرة تضم حوالي 40 دولة أوروبية ومتوسطية يبلغ عدد سكانها قرابة 800 مليون نسمة وهو ما يزيد علي ضعف حجم المنطقة التجارية الحرة في شمال أمريكا "النافتا" والتي تضم الولاياتالمتحدة وكندا والمكسيك. وتعتقد الدوائر الأوروبية أن هذه الاستراتيجية تعد أكبر محاولة طموح حتي الآن من جانب الاتحاد الأوروبي من أجل إقامة تعاون سياسي واقتصادي مشترك بالمزيد من الانطلاق جنوباً وشرقاً.