كثر الحديث في الآونة الأخيرة، وكثرت الكتابات عن حقوق الإنسان، وأصبح هذا الخطاب لا يصدر فقط عن الشعوب، وإنما الحكومات كذلك. فعينت وزارات ولجان ومجالس تحت طائلة "الدفاع" عن الحقوق المنتهكة، متجاهلة بذلك السؤال الرئيسي التالي: إذا كانت السلطة السياسية هي من يملك القدرة والوسائل على تطبيق هذه الحقوق، فلماذا بالتالي تفريخ مؤسسات في هذا الشأن؟ ألا يعتبر ذلك تناقضا صارخا وعاريا؟! وتعددت الجمعيات والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية العاملة في هذا الحقل، وأصبح لها دور رائد ومهم، سواء في التأثير على الحكومات من أجل تغيير سياساتها، أو من حيث استغلالها –إن بوعيها أو لاوعيها- من طرف جهات معينة لتحقيق مآربها، أو في تأديتها للدور الذي صنعه لها النظام الدولي الجديد: نظام العولمة و"حقوق الإنسان"!
وإذا كان الفكر الغربي متوافقا مع موضوعه، وكانت منظومة حقوق الإنسان الحالية، نتيجة طبيعية لتاريخه الطويل، فهل نبدأ نحن العرب من حيث انتهى هو؟ هل الحديث المتكرر عن كونية أو عالمية حقوق الإنسان وشموليتها واكتساحها للحدود والثقافات المحلية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، كلام عقلاني، مبني على أسس معرفية، علمية وموضوعية؟ هل استطاع العاملون عندنا بهذا المجال، تفكيك محتوى الوضع العربي والدولي الراهن، لفهم علاقاته الدقيقة والمركبة، مما يساعد على بلورة آليات ناجحة في التعامل مع مضامين وأبعاد حقوق الإنسان، والمساهمة بالتالي في تكييف هذه الحقوق أو تأصيلها ضمن مجتمعاتنا؟ هل تم التفكير في مدى قابلية تطبيقها عندنا بشكلها المستورد؟ إن المشكل الأساسي الذي يجب التصدي له، لا يتجلى في إثبات البعد الإنساني الذي تحتضنه المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، ولكن المعضلة هي في البحث عن أسس تصبح عن طريقها هذه الأخيرة قابلة لأن تطبق في بلداننا العربية بشكل سليم. بمعنى آخر، البحث في الموانع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتاريخية والدولية التي تحول دون تطبيق مضامين هذه الحقوق. أعتقد أن ما يجب العمل على تكريسه مبدئيا ليس هو المطالب بالحق في العمل والسكن والأمن والمساواة بين الجنسين والصحة والنقابة والإضراب وما إلى ذلك، بهذه البساطة وإنما البحث في أسباب وجود الحيف الاجتماعي والاقتصادي وعدم المساواة والقمع والسجون والسياسة الصحية والتعليمية المتدهورة والفوارق الثقافية والاقتصادية المهولة، ومن تم ربط المطالبة بكل حق على حدة بمدى إمكانية تطبيقه. وللوصول إلى هذه الإمكانية يجب البحث أولا عن الخطوات الضرورية التي لا بد أن نمر منها والتي ستقودنا بالتالي إلى الحق المراد تأسيسه. إن الوضع العربي الراهن ما لم نساهم في تغييره من خلال رؤية شمولية تحليلية تأخذ بعين الاعتبار كل حق على حدة ثم علاقة هذا الحق بالحقوق الأخرى، وما لم نكن متتبعين عن كثب للفكر المجتمعي والواقع الموضوعي في تحولاتهما التاريخية وبعدهما الوجودي وموقعهما الزماني والمكاني، فإننا لن نعمل إلا على تكريس الأوضاع على ما هي عليه الآن. وسنؤخر بذلك كل أمل في التغيير والإصلاح لفائدة الأمة ونزيد من حدة التوتر والأزمة، لأن المزيد من الوقت في غير صالحنا بتاتا. هذا الوعي النقدي بالأزمة وامتلاك آليات البحث والتفكير لا يمكن أن يتأتى هكذا عشوائيا وإنما ينبني من خلال الجهود المتواصلة للعاملين خصوصا في التنظيمات والجمعيات الحقوقية وغير الحقوقية من أجل الحصول على قدر من الزاد العلمي والمنهجي ومواكبة سير التيارات النقدية الفكرية والسوسيولوجية والفلسفية. ذلك أن أبرز أسباب فشل ما يمكن نعته باليسار السياسي العربي –ومن ضمنهم بطبيعة الحال، التنظيميات الحقوقية- هو ذلك الفارق الكبير بين إرادة التغيير وعملية ممارسة التغيير وامتلاك آلياته. يقول شوقي جلال في هذا الصدد في بحث له حول أسباب إخفاق اليسار العربي إن هناك: "... قطيعة بين الفكر وبين العمل الهادف... الهدف كواقع حياتي متحرك، كإنجاز عملي ..... إنها أزمة الدلالة الوظيفية للفكرة، وأزمة الدلالة الاجتماعية للعمل... قد نملك الهدف أمنية تلخصها فكرة تتصف بالعمومية، الثورة أو التغيير. ولا نملك الإجابة المستمدة من واقع حياتي ومنهجي، أو من الممارسة المنهجية، وكيف يكون التغيير ومقتضياته وكأن الحياة كلمة لا فعل... تماما كمن يملك الحلم أو الصورة ولكنه لا يملك الأداة التي هي اكتساب أو ابتكار من خلال العمل، والنتيجة أن يفاجئنا أو يصدمنا الواقع ونواجه الموقف صفر اليدين فكرا ومنهج عمل ونتعامل مع الحدث في آنيته وفي ظاهره الجزئي. إننا لا نتعامل مع ظاهرة الإنسان/الواقع في كليته وشموله، كظاهرة مدروسة التاريخ والاحتمالات، بل مع فكرة عامة ثم مع حدث آني، وبهذا نكون في أحسن الظروف أصحاب منهج المحاولة والخطأ، أو المنهج الخبري الجزئي أو التجزيئي أو رد الفعل، ولا تراكم معرفي يفضي إلى نسق عام... فكل جيل أو كل فرد يبدأ من جديد ولا قدرة على الإبداع... ولا استقلالية للرؤية، والمرجعية دائما مفارقة، واقع غير مدروس واحتمالات في طي المجهول . ! لا أتمنى أن يفهم من كل ما سبق ذكره، أنه يستحيل تطبيق مضامين حقوق الإنسان على الإطلاق. وإنما المراد حقيقة هو إثارة انتباه العاملين بالمجال الحقوقي والمفكرين والمهتمين بشؤون بلداننا العربية إلى ضرورة الوعي بفداحة الأزمة وتعقيدها، وببساطة تعاملنا مع موضوع كبير كهذا. هناك بطبيعة الحال استثناءات: مفكرون وربما مؤسسات، يتوفرون على قدر كبير من المعرفة العلمية والعقلية يحيطون بالواقع من جوانبه المتعددة ويأخذون بعين الاعتبار الأبعاد المختلفة للموضوع، ولكنني أتحدث عما هو سائد بشكل عام. وما هو سائد، للأسف، من تكرار للأشياء والناس والأفكار والأفعال والسلط، وكذا الجهل بمضامين الأشياء وأبعادها وتغييب العقل سواء في أفكارنا أو في أعمالنا وحركاتنا وتعاملاتنا، سيؤدي لا محالة إلى تعقيد الأمور أكثر وتضخيم الأزمة وبالتالي إبعاد إمكانية عيش الإنسان العربي ضمن حقوق تحفظ كرامته وحياته وحريته. لقد تعودنا على أخذ ما هو جاهز من أفكار ومحتوى ومشاريع أعمال، وسمحنا لغيرنا أن يفكر ويقرر بدلا عنا، سواء كان هذا "الغير" غربا أو مؤسسة أو أفرادا. وهذا أمر يجعلنا قابعين في مكاننا، نتفرج على الأحداث وسير التاريخ وكفى. لا نتطور أبدا بل نتأخر كثيرا عن ركب الحضارة المعاصرة. لذا ونتيجة لذلك، فإنه من الطبيعي جدا أن تنتهك حقوقنا، سواء داخل بلداننا أو من طرف الدول الكبرى .