لا نريد للأزهر أن يصبح مشيخة الحزب فلدينا حكومة الحزب وبرلمان الحزب وأحزاب الحزب ونقابات الحزب وبلد الحزب. ولا أظن أنه بحاجة لأن يتضخم أكثر من ذلك، ويضم إليه مشيخة الأزهر، إن شئت الدقة فإن الحزب لن يكبر بضم مشيخة الأزهر إلى مملكته، لكن المشيخة ستصغر إذا ألحقت نفسها بالحزب. كان ذلك تعليقى على ما قاله الدكتور أحمد الطيب فى أول مؤتمر صحفى عقده بعد تعيينه شيخا للأزهر، حين سئل عن موقفه من عضويته للمكتب السياسى للحزب الوطنى، وهل سيحتفظ بها أم سيتخلى عنها؟. وكان رده أنه لا تعارض بين الاثنين. وليس مطلوبا من شيخ الأزهر أن يكون معارضا، وأنه فى كل الأحوال سيظل ملتزما بما يمليه عليه ضميره، ولن يلتزم بما عدا ذلك. أصدقه فى الجزء الأخير من كلامه، فالرجل مشهود له بالاستقامة والنزاهة، ثم إنه «صعيدى» قح، لا يستطيع أحد أن يملى عليه ما ليس مقتنعا به. علما بأنه زاهد فى المناصب أصلا، خصوصا فى المناصب الدينية التى تسبب له حرجا بسبب دقة الموازنة أحيانا بين الحلال والحرام. وهذا الحرج دفعه لأن يطلب إعفاءه من منصب المفتى، وحين تمت الاستجابة لمطلبه وعين رئيسا لجامعة الأزهر، فإنه أبدى ارتياحا عبر عنه بقوله إنه انتقل من موقع الموازنة بين الحلال والحرام. إلى موقع المفاضلة بين الصواب والخطأ. من هذه الزاوية اأعتقد أن الشيخ لن يتأثر بكونه عضوا فى المكتب السياسى للحزب الوطنى، ولكن مقام المشيخة هو الذى سيتأثر بذلك الجمع غير الحميد. صحيح أنه يعرف تماما كما نعرف أن عضوية المكتب السياسى فيها من الوجاهة بأكثر مما فيها من الفاعلية، وإن المكتب المذكور والحزب كله لا قيمة لها فى الخرائط السياسية الراهنة. ولا يذكران إلا فى المناسبات الانتخابية أو فى مواسم التعيين والاستبعاد، إلا أننا حفاظا على هيبة المشيخة واستقلالها الشكلى، يجب أن نقطع الطريق على أى شك فى أن الإمام الأكبر فى مقام الذى يخاطب العالم الإسلامى وليس الذى ينفذ سياسات الحزب الوطنى. كما أننا لا ينبغى ألا ندع مجالا للشك فى أن الرجل يهتدى فى خطاه بكتاب الله وسنة رسوله، وليس بتوجيهات السيد أحمد عز أمين التنظيم فى الحزب. ثم، من قال إن الدكتور الطيب إذا ترك المكتب السياسى للحزب سيصبح بالضرورة معارضا، وهو ما لم يخطر على بال أحد من الذين طالبوه بأن يخلع «قبعة» الحزب مكتفيا بعمامة المشيخة، ذلك أن غاية ما تمنيناه للرجل أن يكون مستقلا فقط، وأن يقدم انتماءه إلى الأمة على التحاقه بالحزب أو امتثاله لرغبات ضباط أمن الدولة. فى هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن الأزهر فى عهد سلفه الراحل خسر كثيرا من مكانته ورصيده، رغم أن الدكتور طنطاوى لم يكن ضمن قيادة الحزب، ولكنه كان أقرب إليه ولأجهزة الدولة من الدكتور أحمد الطيب نفسه. ولكى يستعيد الأزهر مكانته فإن شيخه الجديد مطالب بأشياء كثيرة، أحدها أن يفك ارتباطه مع السلطة والحزب. وإذا تعذر ذلك من الناحية الموضوعية، فالحد الأدنى وأضعف الإيمان أن يتم ذلك من الناحية الشكلية. والشكل هنا ينبغى ألا يستهان به. إذ كما أن الدكتور الطيب وجد أنه من غير اللائق أن يستمر فى ارتداء «البدلة» وهو شيخ للأزهر، فينبغى أن يدرك أنه من غير اللائق أيضا أن يكون الإمام الأكبر عضوا قياديا فى الحزب الحاكم أو أى حزب آخر. وأحسب أن الوعى بجلال منصب شيخ الأزهر وارتفاعه فوق أى منصب آخر هو الذى دفع الشيخ مصطفى عبدالرازق وزير الأوقاق الأسبق إلى التخلى عن لقب الباشاوية الذى منحه له الملك فاروق سنة 1941 حين عين بعد ذلك شيخا للأزهر (سنة 1945)، فتخلى عن اللقب فى واقعة نادرة فى تاريخ مصر (لاحقا صار البعض يعتز بلقب دكتور ويقدمه على شيخ الأزهر). لا أعرف مدى حرص قيادة الحزب الوطنى على الاحتفاظ بعضوية شيخ الأزهر للمكتب السياسى، ولكنى لا أستبعد أن يكون الحزب بعد أن أتم استئثاره بالوظائف القيادية المدنية، قد حرص على أن يمد سلطانه إلى الوظائف الدينية، لكى يحكم قبضته على الدنيا والدين، لقد قلت أكثر من مرة إن مشكلتنا ليست فى تدخل الدين فى السياسة ولكنها فى تدخل السياسة فى الدين. وهذا الذى حدث فى الأزهر «شاهد ملك» على صحة ذلك.