السؤال الذى تطرحه توصية الجمعية العمومية لمجلس الدولة التى عقدت مؤخراً والرافضة لتعيين النساء كأعضاء بالمجلس هو: هل يجوز لسلطة من سلطات الدولة أن تعطل تطبيق الدستور أو القانون لاعتبارات الملاءمة؟ قبل أن أجيب عن هذا السؤال لابد أن أثبت دفعاً شكلياً مؤداه أن الجمعية العمومية لمجلس الدولة فى اجتماعها الأخير قد زعمت لنفسها ولاية لم ينص عليها القانون حين تصدت للتصويت على جواز أو عدم جواز تعيين النساء كأعضاء بالمجلس. فالجمعية العمومية للمجلس غير مختصة بأمور التعيين فيه، والمادة 68 من قانون مجلس الدولة صريحة فى أن اختصاص هذه الجمعية مقصور على إصدار اللائحة الداخلية للمجلس بالإضافة إلى ما يحدده القانون لها من اختصاصات ليس من بينها وضع قواعد التعيين بالمجلس وضوابطه، إذ إن الاختصاص بالنظر فى التعيين وفقاً للمادة 68 مكرر من قانون المجلس مقرر لكيان آخر هو المجلس الخاص للشؤون الإدارية برئاسة رئيس المجلس وعضوية أقدم ستة من نواب الرئيس، وبالتالى فإن توصية الجمعية العمومية بمنع تعيين النساء قد صدرت ممن لا يملك، ومنعت حقاً عمن يستحق. أما من حيث الموضوع فالرأى عندى أن اعتبارات الملاءمة لا مجال لها عند اتخاذ أى قرار إلا إذا كان صاحب القرار يتمتع بسلطة تقديرية فى أن يصدر القرار أو لا يصدره، بشرط أن يكون استخدامه لسلطته التقديرية غير مشوب بإساءة استعمال السلطة أو التعسف فيها وغير مناقض لروح الدستور والقانون ذاته، ولا يمكن استعمال السلطة التقديرية بالمخالفة للدستور والقانون أو حتى بالمخالفة لروح الدستور والقانون، والقول بغير ذلك يؤدى إلى فتح الباب لمخالفة الدستور والقانون والعصف بمبادئهما العامة تذرعاً باعتبارات الملاءمة، وهو أمر إن حدث يخرجنا من إطار دولة القانون إلى دولة الهوى والتقدير والتعسف. من أجل هذا كنت قد اختلفت وما زلت أختلف فى كتاباتى الجامعية مع الحكم الذى أصدرته محكمة القضاء الإدارى سنة 1953 فى الدعوى التى أقامتها الدكتورة عائشة راتب ضد وزير العدل عام 1953 بطلب إلغاء القرار السلبى بالامتناع عن تعيينها فى النيابة العامة، فبعد أن أقرت المحكمة بأحقية المدعية فى التعيين سواء من وجهة النظر الشرعية أو القانونية عادت لترفض إجابة طلبها بحجة أن المواءمة الاجتماعية لا تسمح بذلك الآن، والرد على ذلك أنه لا مواءمة فى تطبيق نصوص الدستور والقانون إن لم يقرر الدستور فى القانون فى صلب نصوصهما مشروعية هذه المواءمة، ومواد الدستور المصرى التى تتحدث عن المساواة بين المواطنين جاءت بعبارات مطلقة لا تجيز للمشرع إدخال أى قيود عليها، وذلك على خلاف مواد أخرى تنظم الحريات تجعل نطاق الحرية محصوراً فى حدود ما يقره القانون، فالمادة 41 من الدستور تقرر الحرية الشخصية فى حدود القانون، والمادة 44 تتحدث عن حرمة المساكن وفقاً لأحكام القانون، والمادة 47 تتحدث عن حرية الرأى والتعبير فى حدود القانون، ولكن المادة 40 التى تقر مبدأ المساواة المطلقة بين المواطنين لا تتيح للمشرع «ومن باب أولى للقضاء أو للسلطة التنفيذية»، إمكانية النيل منها تحت أى ذريعة، تنص المادة 40 من الدستور المصرى على أن «المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة ولا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أوالعقيدة». وهى عبارات حاسمة جازمة تقر مبدأ المساواة بشكل مباشر دون مواءمة أو استثناء، وإن كان هذا لا يغلق بالطبع الباب أمام الاجتهاد القضائى والفقهى لتحديد معنى المساواة، وهو ما أفاضت فيه أحكام المحكمة الدستورية والقضاءان الإدارى والعادى، دون أن يصل هذا الاجتهاد إلى حد العصف بمبدأ المساواة وانتهاكه وإقرار صور التمييز غير المشروع بين المواطنين. وها قد مر أكثر من نصف قرن على حكم مجلس الدولة فى قضية الدكتورة عائشة راتب تولت فيه المرأة المصرية مناصب السفارة والوزارة ومناصب الرأى والفكر فى الصحافة والجامعة بل مناصب تتيح لها الفتيا فى أمور الدين، ومع ذلك ما زال مستشارو مجلس الدولة يرون أن الظروف الاجتماعية غير موائمة لتعيين المرأة فى الوظائف القضائية، وبعيداً عن هذا الجدل، فإننى مصمم على إثبات حقيقة أنه لو فتحنا الباب لمخالفة الدستور والقانون بحجة المواءمة الاجتماعية لفتحنا بذلك باباً واسعاً لمخالفة القانون والدستور والعصف بحقوق وحريات الأفراد، فلماذا إذن نلوم الحكومة على تزوير الانتخابات ما دامت تتحجج بأن المواءمة الاجتماعية من وجهة نظرها لا تسمح بانتخابات نزيهة خشية أن يقفز التيار الإسلامى على الحكم؟ بل لماذا نُدين جميع صور الفساد ومخالفة القانون، التى يملك أصحابها من الذرائع ما هو خليق بإقناع الكثيرين بجدوى مخالفة القانون؟ يملك مجلس الدولة مثلما تملك أى هيئة عامة فى مصر أن تعين بين صفوفها أعضاء جدداً أو أن ترجئ ذلك التعيين بحجة أن الظرف غير مناسب لمبدأ التعيين ذاته، ولكن مجلس الدولة إذا قرر تعيين أعضاء جدد به لا يملك دستورياً العصف بمبدأ المساواة أو بمبادئ الحريات العامة المقررة دستوريا بحجة عدم ملاءمة الظروف لتعيين شريحة من هؤلاء الأعضاء مصنفة بحسب الجنس أو الدين أو الأصل أو العرق أو غير ذلك مما حظرته المادة 40 من الدستور فإذا كانت الظروف غير ملائمة لتطبيق الدستور أو القانون، فالأولى بنا أن نكون على درجة من الرشد والعقلانية بل الشجاعة بأن نطلب إلغاء أو تعديل المواد غير الملائمة مع الظروف، التى لا تروق لنا فى الدستور والقانون، بأن ينص مثلاً على عدم جواز تعيين النساء فى القضاء، وعلى حظر تعيين الأقباط فى مناصب رؤساء الجامعات وعمداء الكليات، وعلى الحيلولة بين أبناء الفقراء والتعيين فى مناصب الخارجية والشرطة، ولنعترف صراحة بأن البعض منا يروق له أن يعود بمصر إلى التنظيم الاجتماعى للطوائف والملل الذى كان سائداً فى العصر العثمانى، والذى ألغاه محمد على باشا عندما شرع فى بناء مصر الحديثة. والمرجح عندى أن الأمر فى مقاومة تعيين النساء فى القضاء لا يتعلق بالمواءمة الاجتماعية بل يتعلق بالثقافة الاجتماعية للقضاة، إذ إن النفور من تعيين النساء فى المناصب القضائية، رغم علم الجميع أن الفقه الإسلامى لا يعارض ذلك فى أغلبه، ورغم علم الجميع أن المرأة قد تولت أرفع المناصب القضائية وأدناها وأثبتت فيها جدارتها فى العديد من الدول العربية والإسلامية، فإن هذا النفور يرجع إلى أن قيمة الاستعلاء الذكورى متغلغلة فى وعى القضاة لأسباب ثقافية عديدة، وليس قضاة مجلس الدولة نسيجاً وحدهم فى ذلك، فنذكر أن قطاعاً كبيراً من رجال القضاء العادى. (حتى من بين هؤلاء الذين يمثلون تيار الاستقلال) لهم نفس الموقف الرافض لتعيين المرأة فى القضاء لحجج أو لذرائع شتى لا تقوى على الصمود أمام أى مناقشة جدية، وظنى أننا لو أجرينا استفتاء بين جموع القضاة بمختلف هيئاتهم على تعيين المرأة فى القضاء لجاءت النتيجة بالرفض، ولولا موقف القيادات العليا بالدولة الداعم لتولى المرأة القضاء لما قدر للمرأة المصرية أن تعين فى القضاء العادى أو الدستورى، وموقف القيادة السياسية فى مصر الداعم للمرأة، شأن الأمر فى دول عربية أخرى كالكويت مثلاً، يأتى أكثر تقدماً من موقف كثير من الشرائح الاجتماعية، ولعل القيادات السياسية فى مجتمعاتنا المحافظة تحاول أن تعوض انتهاكات حقوق الإنسان السياسية والمدنية بدعم حقوق المرأة، خاصة أن هذا الدعم لا يمثل تكلفة سياسية باهظة، وتلك على أى حال قضية أخرى. وشأن القضاة فى استشراء ثقافة التمييز ضد المرأة شأن كل من يمارس سلطة فى مصر سواء أكانت سلطة دينية أو قضائية أو سياسية أو حتى سلطة عشائرية وقبلية، ومن الممكن افتراض أن السلطة فى مصر أياً كانت تجلياتها هى سلطة ذات طابع ذكورى، فالسلطة رجل والرجل سلطة، وفى المقابل إذا أجرينا استفتاء حول تولى المرأة للوظائف بين قطاعات المثقفين والعلماء كرجال الجامعات والإعلام والثقافة فستأتى النتيجة لصالح المرأة، إن من يحملون السيف هم الأقرب إلى دعم التمييز أما من يحملون القلم فهم الأنزع إلى المساواة، ومن هنا تبدو العلاقة واضحة بين ثقافة المساواة ونبذ التمييز وبين الابتعاد أو الاقتراب من سلطة الجبر سواء فى معناها السياسى أو الدينى، ومن هنا أيضاً تبدو العلاقة واضحة بين مقرطة المجتمع بأكمله وإشاعة الاستنارة فيه وبين الإقرار الفعلى للمساواة. بطبيعة الحال هناك تفسيرات كثيرة لسيادة العقلية الذكورية المحافظة فى المجتمع القضائى خاصة اليوم: منها كثرة عدد القضاة المعينين من خريجى كليات الشريعة والقانون ومن خريجى كليات الشرطة وهؤلاء ذوو خلفية ثقافية دينية أو عسكرية محافظة، وقد تربوا على مفاهيم ذكورية السلطة، ولكن هذه التفسيرات وإن ساعدتنا على فهم الظاهرة إلا أنها مبعث للانزعاج الشديد من الحريصين على مستقبل وطن تسوده العدالة والمساواة والحرية. ذلك أن وصول ثقافة التمييز إلى مجتمع القضاة خاصة من شأنه أن يبث الرعب والفزع فى قلوب المصريين على مستقبل حقوقهم وحرياتهم المنوط بالقضاة حمايتها، وبالأمس القريب فزع المصريون فزعاً شديداً عندما دافعت قطاعات واسعة من القضاة عن حق أبنائهم فى تولى وظائف القضاء بصرف النظر عن جدارتهم العلمية، وهى سنة غير حميدة جرى عليها العمل فى تعيينات القضاء منذ عدة عقود، وسيق الكتاب والمفكرون الذين فتحوا هذا الملف إلى النيابة العامة للتحقيق معهم كمتهمين بتهمة إهانة القضاء، وفى هذا قدر من شخصنة السلطة واستعمال لسيف القانون فى غير ما شرع له، وفى الوقت الذى ألغى فيه القضاء الدستورى استثناء تشريعياً كان مقرراً لأبناء أساتذة الجامعات عند الالتحاق بالجامعة لمخالفته مبدأ المساواة، لا يرى بعض القضاة ضيراً من تقرير نفس التمييز لصالح أبنائهم وبالافتئات على حقوق المتفوقين من نظرائهم، وتنطلق لتبرير ذلك دعاوى مضحكة مثل قول أحد كبار القضاة أن تقدير مقبول يضاف إليه أبوة أحد رجال القضاء للخريج يساوى تقدير جيد. وعلينا أن نمتد بالمنطق لنهايته فإذا كانت الأبوة لأحد الوزراء كان التقدير جيداً جداً أما إذا كانت الأبوة لمن يعلو ذلك فلا وجه للمقارنة أو المفاضلة، لماذا نشكو إذن من التوريث السياسى إذا كان التوريث سنة متبعة فى مختلف الوظائف: عند العمل فى القضاء وفى الجامعة وفى الإعلام وفى الطب وغير ذلك؟ وهكذا مرة أخرى تتحول الدولة المصرية بالتدريج إلى دولة للطوائف يسقط فيها القانون ومبدأ المساواة وترتفع قيمة التمييز بسبب الجنس أو القرابة والواسطة، والمحسوبية المجرم قانوناً. ولكن أن يصل الأمر إلى الضمير القضائى فهذا مبعث الفزع الحقيقى، لأنه لن يستطيع الإمساك بميزان العدالة من افتقد ضميره الإحساس بقيمة العدالة. ولن يستطيع أن يساوى بين الناس فى مجلسه ووجهه (كما أوصى عمر بن الخطاب)، من انحاز إلى أهل بيته لمجرد رابطة الدم، إن الإحساس بالعدل لا يتجزأ، وأخلاق العدل والحرية والمساواة هى الحاكمة لتطبيق النص القانونى. وإذا افتقد القاضى هذا الحس الخلقى الرفيع فليس لنا أن ننتظر تطبيقاً عادلاً للقانون أو حماية صارمة للحقوق والحريات، وهذا مبعث الخطر.