في كتابهما "رسائلنا ليست مكاتيب"، الصادر عن دار أزمنة ودار مجاز (2016)، والعابر للفجوة النوع-أدبية Literary Genre الدقيقة بين فنّين نثريين أثيرين في بنية الثقافة العربية المتخمة بالنصوص والأنواع والأجناس؛ هما فنّا "الرسائل" و"السيرة الذاتية"، يفجّر مؤنس الرزاز (1951- 2002) وإلياس فركوح (1948-)، أو إلياس ومؤنس، دون فارق كبير في تقديم أحدهما علي الآخر أو تأخيره، جملة من القضايا الثقافية والمفاهيمية الإشكالية المتصلة بطبيعة الكتابة في علاقتها بماهية الإنسان والوجود؛ أو لنقل في علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين؛ أقصد إلي ذلك الإنسان العائش بين مجازات الحقيقة ومفازات الخيال، المتأرجح بين تجريد الزمان وتعيين المكان، المتردّد بين جدران السجن وبلاغة الحرية، المسافر الأبدي بين الوطن والمنفي، .. وغير ذلك من ثنائيات متضادة حينا، أو مندغمة متوازية ومتقاطعة حينا آخر. ولعل السبب في تفرّد هذا الكتاب يعود إلي طبيعة الممارسة الكتابية التي يقوم عليها أو يتمثّلها مؤلّفاه. فما كتبه مؤنس الرزاز إلي صديقه إلياس من رسائل تفيض بالمعرفة وتنضح بالخبرة الحياتية وتستلهم فوران الشباب (ما بين عامي 1976- 1981) لم يعثر مباشرة علي أصدائه الشعورية المضادة لدي الثاني إلا بعد وفاة الأول؛ أي بعد وفاة مؤنس بسنوات، كأن فعل الرسائل المضادة -التي هي إعادة معايشة لأزمنة قديمة- قد تجمّد في مخيّلة فركوح لسنوات لاحقة، حتي استطاع أن يُخرج من جعبته (ذاكرته) نصوص صاحبه ومقابساته وإشاراته، متأمّلا إياها في سياق جديد، استطاع أن يموضعها في زمكان مغاير لزمكان تشكّلها الأول، فتحقّق له بذلك المبدأ الذي كان أبو حيان التوحيدي يشتغل عليه (الإمتاع والمؤانسة). وليس الحديث عن التوحيدي، هنا، بعيدا عن سياق تشّكل الرسائل ذاتها، سواء ما انتسب منها إلي مؤنس الرزاز أو إلياس فركوح، فالغاية هي التبئير علي جوهر الكتابة بوصفها وجودا مطلقا، قادرا علي إعادة خلق الإنسان من عدم، كأنها الفينيق الذي لا يندثر؛ لأنه ينطوي في داخله علي بذرة الحياة السرمدية. تتحرك بنية الكتاب ثنائي المؤلف عبر عدد من المدن والأمكنة والأشخاص الواقعيين الذين يتم استدعاؤهم أو "تحضيرهم" علي طريقة السحرة، حيث تأتي الأمكنة لا بوصفها أحيازا فحسب، بل من حيث هي فضاءات سوسيوثقافية اشترك فيها المؤلفان كما اشتركا في طفولة أردنية، عروبية، ذات نزوع ثقافي باكر؛ وذلك عبر مرورهما بعدد من عواصم العالم، مثل بغداد وبيرمنغهام ووشنطن وبيروت، .. وغيرها. هكذا تتحرك أقسام الكتاب الستة علي محاور مكانية ذات مرجعية ثقافية وإحالات تأتي من قلب الذاكرة البعيدة. وهنا، قد يشعر القارئ أنه بصدد كتاب حواري، يستدعي كتاب التوحيدي "الصداقة والصديق"، بكل ما تنطوي عليه استعمالات ضمير المخاطَب الذي هو وجه من وجوه الأنا -في لعبة تبادل الأصوات والضمائر والمواقع بين الصديق وصديقه- من حنوّ بالغ ومحاججة عنيفة في الوقت ذاته؛ هي أشبه بمساءلة صارمة للنفس والآخرين. ولذلك، تحضر في ثنايا الكتاب بعض الاستعارات الأثيرة التي وظّفها كثير من كتّاب المنفي العرب في سردياتهم إبّان لحظات الهزيمة؛ أقصد إلي استعارة "الضباع" وتمثيلات "الذئاب" التي تنهش في الروح أو المخيّلة العربية قبل تضاريس الجسد أو جغرافيا المكان. "رسائلنا ليست مكاتيب" كتاب في ماهية الأدب ووظيفته، وكتاب في الفعل الثقافي والاجتماعي الخلّاق الذي تخلقه رسائل الكتاب وحكاياته ومغامرات صاحبيه اللذين اجترحا موضوعات معقدة عن فلسفة الكتابة والأحلام والكوابيس والإحباطات ومدن الأحلام وفوران الشباب والصراعات الحزبية والشعارات التقدّمية والرؤي والقلق الوجودي، .. وغير ذلك كله، انطلاقا من مبدأ التعرّي المطلق أو المكاشفة التامة وإطلاق الأفكار كطلقات الرصاص؛ وذلك من أجل مواجهة سرديّات كبري، مزعومة، عن التنوير والتحرير والسلام والتقدّم.