يُخطئ من يتصور أن حقوق الإنسان مكرمة من أحد ويخطئ بالتبعية كذلك من يتفاءل في عالم لا يعترف بغير القوة في فرض إرادته علي الأضعف فالشعارات البراقة التي تجوب الفضاءات حول الحرية والتشاركية والعدالة والمساواة والديمقراطية والمسئولية الاجتماعية والإحساس بالهوية والتمتع بالحقوق البشرية والالتزام بالواجبات والحقوق تخفي وراءها مصالح قوي عالمية وأخري محلية تُفقد المواطنين قيمهم الخصوصية وشعورهم بالمواطنة التي هي البوتقة التي تضمن انصهار جميع الانتماءات لصالح الوطنضمن أطر نظامية ومن خلال الالتقاء علي أرضية المصالح الوطنية العامة. ولاشك أن من يردد تلك الشعارات يعاني من ضعف الوعي الاجتماعي فالمواطنة والانتماء ليست شعارات بل هي ممارسات وتطبيقات تحتاج إلي دعم سياسي حتي تتأصل في ثقافة الإنسان ليصبح قادرا علي التمسك بخصوصية مجتمعه وفي وقت الأزمات المتعلقة بالهوية يستطيع استرجاع الحق الطبيعي في الكرامة الإنسانية صانعة الحضارة والرقي. ونظرا لتشابك قضايا المواطنة والانتماء فهي تثير جدلا واسعا بين الباحثين وعلماء الاجتماع ورجال الفكر خاصة في اطراف المنطقة الجنوبية من "القرية الكونية الجديدة" حيث يشهد العالم تحولات كبري ليست دائما وأبدا في صالح قيم المواطنة والانتماء تحولات أفرزت بالضرورة أنماطا أخري من العلاقة بين الوطن والمواطن ؛ بين النظام والفرد تغيرات متسارعة تتجه نحو تهميش الثقافات الوطنية الخالصة فنعيش في عالم تفككت فيه الروابط الاجتماعية وأُلغيت فيه القيود والحواجز الجغرافية وتلاشت فيه المسافات الزمنية نعيش في عالم يصنع أنصاره استنساخ إنسان كوني "افتراضي الهوية" ينحاز إلي عالم "إفتراضي عالمي" يغترب فيه المواطن عن وطنه ويفقد فيه خصوصيته التراثية ويضعف لديه الشعور بالانتماء ويتخلي فيه عن تراث أمته بل لا يعترف بما يُطلق عليه بورديو "الهابيتوس" وهو كل ما نُشّئ عليه في وطنه وأمته. إن الدول القابلة للتعرض للاختراق الثقافي ينحاز "مواطنوها" بدرجات متباينة إلي التماهي في عالم افتراضي يرتكن إلي نظام أسس الداعون له قواعد ومعايير وشروطا تتوافق مع "ثقافة العولمة" وتتكيف مع مصالح صانعيها وتناسب عصر الليبرالية الجديدة وما بعد الحداثة وهنا تبدو الإشكالية المطروحة علي بساط البحث وموضع تساؤل الباحث المهموم والملتزم بقضايا الوطن المنتمي إليه: إلي من ينتمي؟ إلي وطنه أم إلي عالم مبهر يصطنع مقولة "جيران في عالم واحد"؟ وتتفرع الأسئلة إلي إشكاليات تتعلق ب : هل ينصاع المواطن إلي معايير مخالفة لقواعد تطبع عليها داخل جماعته الكبري؟ وهل عليه أن يتخلي عن عالمه الطبيعي بما يحمله من قيم اجتماعية نُشئ عليها؟ وما تأثير ذلك علي هويته وانتمائه الوطني؟. وما مكانة الأمة التي يقف مواطنوها حائرين بين الأنا والآخر بين الهوية الوطنية والأخري العولمية بين التراث الأصيل والمعاصرة المغتربة؟ وهنا تؤكد بعض الدراسات الأكاديمية والشواهد الواقعية علي اننا في عالمنا نعيش بسبب هذا التحول الكثيف نحو ثقافة العولمة وتوابعها المعلوماتية والتطورات الإلكترونية الرقمية ووسائل الإتصال الاجتماعي نعيش محنة الهوية منذ زمن ليس بالقصير نخبر يوميا حالة لامعيارية؛ "أنومي" من نوع جديد حالة من فقدان الانتماء الوطني خاصة شرائح الشباب والدلائل علي ذلك كثيرة فما نشاهده اليوم من "هجرة أهل مصر" وظاهرة "شد الرحال" تؤكد مأزق الهوية في العصر الحديث. لقد ضعفت قيم المواطنة والانتماء لدي بعض شرائح المجتمع المصري وظهرت أعراض ضبابية وتشوه في الذهن البشري وتشكلت سلوكيات متناقضة الهوي لدي أبناء مجتمعات "الأطراف أو التوابع" وهي تعكس حالة من التغريب الوطني وفقدان التوازن يعكس عدم قدرة المواطن علي الاختيار بين ثقافة وطنية قابلة للتحاور بتكافؤ مع ثقافة الآخرالمتمسكة بملامحها الكونية الإفتراضية. ونتيجة لذلك تشكلت توجهات معرفية بعضها يدافع عن المحلية والخصوصية وأخري تنزع نحو العالمية ذائعة الإنتشار وبين هذا وذاك فقد الإنسان البوصلة وتخلي عن المعيار.. وللحديث بقية.