هذه السطور نرصد أهم اشكاليات الهوية الثقافية والحضارية في عدد من النقاط: عدم قدرة المجتمع علي التوظيف الصحيح لذاكرة الأمة - عدم امتلاك الشجاعة لإخضاع الموروث الثقافي للنقد البناء في سبيل تطويره - ضعف الوعي المجتمعي بالتراث الثقافي برافديه المادي واللامادي - الخوف غير المبرر من متطلبات الحداثة ومتغيرات العصر - التمسك بالموروث التقليدي بحجة الخوف من تيارات العولمة، خاصة الثقافية - الارتباك الثقافي الحادث من تسارع ظاهرة العولمة وآليات انتشارها في العالم - قضية الانفجار المعلوماتي والتقنية المعرفية واسعة الانتشار وبلا حدود.. وواقع الأمر أن الهوية الثقافية تتأثر ككائن جماعي حي بعوامل داخلية بفعل تغير المرجعيات القيمية وبناء علي متغيرات مجتمعية، وعوامل خارجية بتأثير تطور علاقات الفرد والجماعة الاجتماعية وموقفها من التحولات الكونية واسعة الانتشار والتنقل بلا حدود.. وهنا تشير الدراسات حول العلاقة بين الموروث الثقافي والحضاري والهوية والانتماء إلي مجموعة من الخصائص التي تميز التراث من أهمها: الخاصية الأولي: التفرد والخصوصية: فالثقافة يكتسبها الإنسان بالتعلم من المجتمع الذي يعيش فيه، ومن ثم فتوارث سنن الحياة من خلال العمل والاختراع والابتكار يتبني الناس اسلوبا متفردا في الحياة وأنماطا معيشية لها طابعها الخاص، إضافة إلي أعراف وفنون تسهم في تحديد ملامح الشخصية القومية.. الخاصية الثانية: الاستمرارية والانتقال عبر الزمن، وقد تنتقل سمات ثقافية من مجتمع لآخر نتيجة عوامل الهجرة أو الانتشار الثقافي أو الاحتكاك بثقافات مغايرة.. الخاصية الثالثة: الثراء في الملامح والسمات والعناصر المتداخلة في الموروث الثقافي، فمن الصعوبة بمكان أن يستوعب الفرد كافة عناصر الثقافة السائدة في مجتمعه، لذا يميز علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية بين نوعين من الثقافة التراثية، الأول؛ ما يوصف بالثقافة المادية التي يصنعها الإنسان في حياته العامة وكل ما ينتجه العمل البشري من أشياء ملموسة. والثاني؛ يمثل الثقافة اللامادية، والتي تعني منظومة الفكر والقيم الاجتماعية الملزمة للجماعة الاجتماعية.. الخاصية الرابعة: الثابت والمتحول في الثقافة: حيث هناك سمات عامة وأخري فرعية، الأولي تعبر عن وحدة المشاعر والتقاليد والعادات والممارسات التي يشترك فيها الأفراد كالشعائر والمعتقدات الدينية واللغة......، أما الفرعية فتقتصر علي ملامح تميز جماعة أو جماعات داخل حدود المجتمع.. والسؤال: كيف نحافظ علي تلك العلاقة بين الموروث الثقافي وتحديات عصر العولمة؟. لعلنا لا نبالغ في أن ذاكرة الأمة ترتكن إلي تراث ثقافي متجدد ومن ثم نحن في حاجة مستمرة للتنقيب في ايجابيات التراث الحضاري والمحافظة عليه كقيمة تراثية دافعة للتقدم ومحققة للانتماء والتمسك بالهوية المتفردة وذلك من خلال حماية وحفظ التراث الثقافي المادي واللامادي بمعني وضع الإجراءات الكفيلة بتحقيق الحماية التي تقوم علي معايير أساسية من أهمها: القيمة الجمالية، والقيمة التاريخية، والقيمة المعرفية والعلمية، والبحثية. وهنا يجب أن نركز علي الوعي بقيمة التراث الثقافي سواء من جانب الدولة، وأهل الاختصاص وكذا من جانب المواطنين. لذا يتطلب الأمر التخطيط الجاد لإجراءات الحفظ، والصيانة، والترميم، والتكييف (عدم الانتقاص من الأهمية الحضارية للموقع لتمكنه من الاستمرارية).. إن الحفاظ علي عنصري التراث الثقافي الحضاري والتلاقي معه والابداع والتجديد وتحمل مسئولية نقله للأجيال هو ما يمثل ذاكرة الأمة وابراز ابداعاتها المادية واللامادية هو حفاظ علي هوية الأمة، فالتراث بروافده الشفوي، والمسجل، والمنقول، هو المدخل الحضاري لفهم العالم في مراحل تطوره، وهو السبيل المحوري لمواجهة تحديات العولة، ليس بمنظور الدفاع عن هوية الأنا بل من أجل ترسيخ مكانة الذات في المنظومة العالمية.. من هنا نشير إلي أن حماية التراث تستدعي نهضة ثقافية حديثة تتطلب وعيا بمكونات حضارته والنظر إليه لا كإرث تاريخي غاب وانقضي بل حاضر دوما ماديا وفكريا. لابد إذن أن ننبه بضرورة تجديد الثقافة واخضاع الموروث الثقافي للنقد العقلاني المتجدد لإغناء هويتنا واكتساب الأسس والأدوات والمعارف التي لابد منها لممارسة التحديث المستمر ودخول عصر المعرفة المتجدد.