تداعيات الأحداث الإسلامية لا تنتهي بانتهاء زمانها. وإنما تظل هذه التداعيات ترسم للأمة طريقها. فالإسلام عندما بدأ بمكة كان أنصاره قلة في العدد ومن المستضعفين. لكنهم كانوا أقوياء القلوب بإيمانهم. و عندما هاجروا من مكة إلي المدينة لم تكن هجرتهم هجرة ضعفاء إلي مكان يلتمسون فيه القوة. وإنما كانت هجرتهم هجرة الأقوياء بدينهم. لقد سبقت هذه الهجرة بيعة العقبة الثانية. علي الدفاع عن الإسلام والقتال لنصرته بينما كان في المدينة أهل الهجرات السابقة علي الإسلام فقط وليس علي القتال في سبيله. ولكن البيعتين تضامنتا في أشخاص المبايعين وانتقل المهاجرون إلي إخوانهم بالمدينة والذين حملوا صفة الأنصار. وانصهر الجميع في بوتقة الإسلام الواحدة. فلما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم ومعه أبوبكر الصديق كان معني ذلك قيام الدولة الإسلامية.. التي تدافع عن نفسها ضد أهل البغي والطغيان. والموقف العجيب من أهل مكة انهم كانوا يعلنون الحرب علي إيمان في قلوب المسلمين. وليس علي المسلمين فقط كأشخاص. فهم يحاربون فكرة الإيمان بالله الواحد الأحد وبالرسالة الإسلامية التي أنزلها الله علي النبي الخاتم سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم. وعجيب أمر هؤلاء المكيين لنهم لم يكونوا يحاربون الأشخاص فقط. وإنما يحاربون الأفكار في عقول هؤلاء الأشخاص ويحاربون الإيمان في قلوبهم. وأصحاب العقيدة الثابتة لا يتركون فرصة للدفاع عن إيمانهم. ولما لم يجدوا أمامهم سوي ترك الديار فقد تركوها ولجأوا إلي ديار أخري ترحب بهم. وتؤمن مثل إيمانهم وتعلن الانطلاق بالدعوة إلي رحاب الله الواسعة. ولكنهم كانوا مسالمين إلي أبعد الحدود حتي استنفرهم المشركون فقبلوا التحدي وكانت غزوة بدر التي انتصر فيها الحق علي الباطل. وانتصرت فيها القلة المؤمنة علي الكثرة الكافرة. وكان هذا أول ميزان يوضح قوة الإيمان علي ضعفها في العدد والعدة. ولذلك فإن المسلمين حين يحتفلون بالانتصارات الإسلامية يجعلون احتفالهم بالانتصار في غزوة بدر أول الاحتفالات ويعلنون هذا الاحتفال بكافة وسائل الاعلام. والدول نفسها كحكومات وشعوب تحتفل بذكري الانتصار في غزوة بدر. ولا يساوي هذا الانتصار سوي الانتصار في فتح مكة» فالانتصار في بدر كان أول الحروب المسلحة. وكان الانتصار في فتح مكة هو الانتصار الذي وضعت فيه الحرب أوزارها بين المسلمين والكفار في مكة. وكان فتح مكة دلالة علي أن الحق مهما يطل طريقه فإنه ينتصر في النهاية. والهجرة دليل علي ذلك. فهي لم تكن هجرة الضعفاء إلي أرض قوية تجاهد معهم وإنما كانت هجرة أقوياء ينطلقون بدينهم من أرض خصبة ضد من يعتدي عليهم ويحاول إيقاع الأذي بهم. الهجرة إذن لم تكن هروباً. ولم تكن هجرة ضعفاء. وإنما كانت هجرة أقوياء بدينهم إلي أناس يعتقدون بدينهم وينطلقون معهم لنشر الإسلام في أرض الله الواسعة.