تفصلنا أيام معدودات عن الانتخابات البرلمانية التي يصعب التنبؤ بنتائجها نظرًا لضبابية المشهد الانتخابي والتباسه علي جموع الناخبين. وهو ما يمثل خطورة بالغة علي الحياة السياسية المصرية في المرحلة الراهنة.. منبع الخطورة هذه المرة هو غياب المعلومات عن المواطن الذي يواجه حيرة ما بعدها حيرة..فالمرشحون مجهولون في نظره أو معلومون تحيطهم شبهات الفلولية أو الانتماء للإخوان أو حتي السلفيين الذين يجري تعريتهم الآن إعلامياً وإبراز تناقضهم الفكري وعدائهم للدولة المدنية والديمقراطية وتخفيهم وراء شعار احترام القانون والدستور وهم أبعد ما يكونون عن احترامهما.. إظهار سوءات السلفيين والإخوان المستترين بهم وعلي قوائمهم الانتخابية لا يقابله للأسف طرح سياسي جاذب ومؤثر في المواطنين من القوي المدنية أو بديل يملأ فراغًا خلفه غياب الوطني المنحل والإخوان المحظورون وهو ما يجعل الملعب السياسي مفتوحًا للكتلة السلفية في بعض المناطق.. 1⁄4 المشهد الانتخابي ملتبس ومرتبك وجد خطير.. وإذا سألت مواطنًا عادياً من السواد الأعظم للشعب: من سوف تنتخب.. سيأتيك الرد: لا أعرف مرشحي الدائرة.. ولا كيف أختارهم.. لا أعرف معني القائمة المطلقة التي أقرها القانون ولا حتي كيفية اختيار مرشحي الفردي.. وهنا يثور سؤال مَنْ المتسبب في هذا الارتباك.. أهي الأحزاب المدنية والنخبة التي عجزت عن ملء الفراغ بعد ثورة يناير.. وبدلاً من أن تقود الناس كانت حركة الجماهير أسبق منها وأكثر وعيًا ورشدًا وربما وطنية.. أهو الإعلام الذي ترك الجاد من القضايا والأولويات الوطنية ومحاربة الفساد والإرهاب.وعاد إلي المراهقة الإعلامية إن صح التعبير وإغراق المشاهد في توافه الأمور وسفاسفها. وكأن ثورتين عظيمتين لم تقعا. وعاد ليغرق في الإباحية والشذوذ الفكري وجدليات لا تبني مجتمعًا ناضجًا.ولا تقيم وطنًا في حاجة لثورة معرفية وعلمية وثقافية كي يغادر التواكلية والسلبية والكسل إلي العمل والإنتاج والتوكل علي الله.. أم هي الحكومة وتشريعاتها الغامضة وسقوطها المتكرر في فخ عدم الدستورية..أم هذه العوامل مجتمعة ؟! الكل مسئول إذن.. لا نبرئ أحدًا.. ويبدو طبيعياً أمام هذه الحيرة وهذا التوهان أن يجد الناخب نفسه إزاء أمرين لا ثالث لهما »إما أن يستمع لدعاوي بعض المغرضين بالمقاطعة وهنا تكمن الخطورة الحقيقية.. وإما أن يذهب مضطرًا للجان انتخابية ليعطي صوته للمجهول!! العزوف عن المشاركة السياسية هو أخطر ما يمكن أن تواجهه مصر حالياً..ولعل حديث البعض عن استطلاعات رأي تنبأت بانخفاض معدل المشاركة في الانتخابات القادمة يعزز هذه المخاوف.. لكن الشعب المصري عودنا دائمًا علي المفاجآت.. فلا يعرف أحد ماذا يمكن أن يحدث في اللحظات الأخيرة خصوصًا إذا استشعر المواطن خطورة تخليه عن واجبه الوطني في التصويت في انتخابات البرلمان الوشيكة التي يبدو أن الإخوان لن يغيبوا عنها بل هناك بالفعل مرشحون إخوان في دوائر مختلفة.. في الجيزة والفيوم مثلاً وجوه إخوانية معروفة ناهيك عن كوادرهم الخفية والمتعاطفين معهم غير المعروفين أو غير المنتمين صراحة للإخوان. بخلاف السلفيين الذين هم أقرب مودة وفكراً للإخوان..!! المحزن حقًا أن القوي السياسية قديمها وحديثها لا تشعر بتأنيب ضمير ولا بتقصيرها المخجل بعد إخفاقها المتكرر علي مدي شهور في تكوين ائتلافات مشتركة لخوض الانتخابات علي قلب رجل واحد بل ازداد بعضها صفافة حين دعا كما قلت إلي مقاطعة الانتخابات دون حساب للعواقب أو تقدير لسوء المصير. لا يمكن لأحد الزعم بأن البيئة السياسية الراهنة في أحسن أحوالها.. فهناك صراعات مصالح تتجاذب النخبة وتحكم حركتها وسكونها وسلوكها..وثمة جماعات عنف لا تزال تعادي الدولة وتصر علي هدمها. وهناك سواد أعظم من الشعب يعاني نقصًا في المعلومات وتغييبًا للوعي وفقدانًا للبوصلة.ناهيك عن الأمية والعوز والعصبيات التي تدفع بالاختيار إلي اتجاهات معينة خصوصًا في مناطق مثل سيناء ومطروح والصعيد وبعض مناطق الدلتا. وهو ما يجعل الاستحقاق الثالث أو انتخابات البرلمان محفوفةً بمخاطر جمة. وتزداد الضبابية حين يشعر المواطن بغياب الحكومة التي لا يلمس الناس أثرها في ضبط جنون الأسعار مثلاً التي تكوي الفقراء وتسحقهم بلا رحمة.. بل ثمة تخبط وتراجع في بعض الملفات وغياب الرؤية السليمة.. ولا يري من القوي السياسية إلا اتهام بعضها بعضًا بالانتهازية والتخلف عن إرادة 30 يونيو وربما العمل ضدها!! وينسي الجميع أن مصر لا تزال في مرمي الخطر.. تتألم وتتوجع من الإرهاب.. وتنزف اقتصاديًا وهي مبتلاة بنخبة المصالح الضيقة التي لا تزال تعاني الانفصام والتفكك والتشرذم.. وفي ظل غياب تعبئة وطنية مستنيرة تتطلبها المرحلة المضطربة إقليمياً ودولياً نحو الأهداف القومية والاستقرار وعودة الأمل والعمل.. مارس الإعلام دوراً رئيسيًا في إرباك وتعتيم المشهد حين ألقي سلاحه وتخلي عن رسالته في كشف المخاطر ودرء المفاسد وتفرغ لبرامج فيها من الانحطاط والإباحية والإلهاء ما لا يخفي. ويبدو طبيعياً في سياق ضبابي كهذا أن يخالج الخوف علي المستقبل صدور حزب الكنبة الذي كان الكتلة الحرجة في 30 يونيو.. وتبدو ثقته في الحكومة والنخبة آخذة في التراجع.. وتصادف ذلك مع غلاء في الأسعار وزيادة في أعداد المتعطلين عن العمل والفقراء والمهمشين رغم الجهود المضنية التي يبذلها الرئيس السيسي لضبط هذا الوضع وإعادة مصر لدورها ومكانتها في الإقليم والعالم.. وهو ما يقابله عجز وفشل كبير لكافة القوي والتيارات السياسية وأجهزة الحكومة.. حتي المواطن نفسه لم يجتهد بالقدر المطلوب منه للقيام بدوره في دعم الدولة.. فالمغالون في الأسعار المتاجرون بأقوات الناس.. والغشاشون في الأسواق. والناهبون لأموال الشعب..والمدرسون الذين يستبيحون الدروس الخصوصية دون أن يقوموا بما عليهم في الفصول.. أليسوا مواطنين خانوا الأمانة وتخلوا عن دعم الدولة والوطن..؟! وربما يدفعنا ذلك للتساؤل: كيف يمكن إجراء انتخابات في أجواء محتقنة كهذه.. ألسنا في حاجة إلي إعادة التعبئة السريعة لتدارك هذا الخطر..؟! لا شك أن الدولة جادة في استكمال خارطة المستقبل. وليس واردًا ولا مستحبًا تأجيل الانتخابات وليس واردًا أن تتدخل الحكومة في توجيه دفتها.. وهو ما أكده الرئيس مراراً وتكراراً.. لكن هل نقبل بالعشوائية الحالية في اختيار أخطر برلمانات مصر علي الإطلاق..هل الديمقراطية هي الاحتكام للصناديق فقط.. أم أنها عملية متكاملة تبدأ بتمكين الناخب بالتوعية والضرب بيد من حديد علي كل من يخالف القانون والدستور وقواعد العملية الانتخابية.. وإذا كان الإشراف القضائي الكامل سيضمن نزاهة التصويت وشفافيته. وإذا كانت الحكومة ستلتزم الحياد إزاء جميع المرشحين.. فهل يكفي ذلك لمنع ظواهر سلبية انتشرت في الماضي مثل البلطجة والرشاوي وشراء الأصوات بل شراء المرشحين أنفسهم لحساب المال السياسي..هل يمنع المتاجرة بالشعارات وخلط الدين بالسياسة وغلبة العصبيات وغيرها من الآفات الانتخابية.. وهل يعني غياب تأثير الحكومة أن المواطن سوف يترك لحاله حراً في اختياراته.أمينًا في الإدلاء بصوته.واعيًا بخطورة المرحلة ومتطلباتها.مدركًا أن المكاسب الشخصية زائلة ولن تبني مجتمعاً يحميه من الفساد واستغلال الحصانات في النهب والتهام مقدرات الوطن وحقوق المواطن وغياب التفاعل والقدرة علي ممارسة الدور الرقابي والتشريعي المطلوب.وحل مشاكل كل مواطن من جانب نواب البرلمان.. هل ينجح الشعب في اختياراته هذه المرة لأعضاء برلمان ذوي كفاءة ونزاهة وثقافة وطنية صادقة وغيرها من صفات النائب الصالح. كانت الانتخابات فيما مضي من عهود موسماً للتنازلات. كإعفاء المزارعين من الغرامات أو إسقاط ديون المتعثرين منهم أو غض الطرف عن جريمة البناء علي الأراضي الزراعية وغيرها من الرشاوي التي كانت الحكومة تقدمها للأسف رغم قدرتها الهائلة علي التزوير.. كانت المعارضة في المقابل لا تمتلك إلا التشكيك والطعن والهجوم علي سياسات الحكومة. وكانت تعقد معها صفقات سرية محرمة. مثلما فعلت جماعة الإخوان.. والسؤال هل بقي شئ من هذا الميراث سيئ السمعة أم أن المشهد تغير جذريًا.. وهنا أترك الإجابة للمواطنين والحكومة معًا!! يقيني أن مصر تغيرت ولم يعد في مقدور أحد أن يعيدنا للماضي أو يبعث الماضي من قبره. فلا الشعب يقبل بمعسول الكلام أو الترغيب والترهيب ولا الظروف الراهنة تسمح بمثل هذه المهاترات. ونرجو أن تعبر الانتخابات المقبلة عن إرادة حقيقية للناس وتعكس صدق اختياراتهم بعد التحري والتثبت من صدق نوايا وحقيقة المرشحين بطول مصر وعرضها.. وعلي المجتمع المدني أن يكثف جهوده للتوعية وتحسين اختيارات الناخبين وعلي الإعلام المسئولية الأعظم في ذلك وعلي العليا للانتخابات الحسم في مواجهة المخالفات وتتبع الخروقات حتي تغلق الباب أمام المطاعن وحملات التشكيك التي بدأت من جانب الجماعة الإرهابية وحلفائها هنا وهناك.. وعلي الأحزاب والقوي السياسية أن تدرك حجم مسئوليتها وتصارح نفسها بوزنها الحقيقي في الشارع فربما تخلصت طواعية من هذا السيل الهائل من الأحزاب الكرتونية واندمجت في حزبين أو ثلاثة كبار مثلما هو الحال في أعتي الدول ديمقراطية.. وهذا بلا شك مرهون بالذهاب للصناديق والحرص علي التصويت حتي يتحدد مستقبل مصر علي أساس واقعي وبإرادة وطنية خالصة لا برأسمال ولا أجندات الخارج وحتي نفوت الفرصة علي فصيل سياسي أن يهيمن علي الحياة السياسية دون غيره. الإصرار علي الخروج الكبير للمصريين للتصويت في الانتخابات هو الضمانة الحقيقية للاستقرار والديمقراطية والنزاهة.وعودة الإنتاج وتدفق الاستثمارات ووقف نزيف الاقتصاد والفوضي. اخرجوا أيها المصريون للعبور بمصر من عنق الزجاجة فالامتناع عن التصويت سلبية لا تليق بمصر الثورة واستسلام مرفوض لمرددي دعاوي الإحباط وهذا سلوك لا يخلق أملاً في المستقبل.. كما أنه لن يغير من الواقع المرتبك شيئًا بل يزيده تعقيدًا وتراجعًا. اختيارك الصحيح لنائب البرلمان هو وحده القادر علي إصلاح ما نعانيه من مشاكل وخلق مجتمع أكثر تقدمًا ويمنع دخول تجار الدين وصانعي التطرف والإرهاب.. وفلول الفاسدين وسارقي أموال الشعب والباحثين عن الحصانة ونهب المال العام. ليتنا نتعلم من أخطائنا حين تقاعسنا عن المشاركة في اختيار مجلس الشوري 2012 وكانت النتيجة المرة سيطرة المتأسلمين عليه وهم للأسف من وضع دستور 2012 الإخواني وحين امتنع كثير منا عن الذهاب لانتخابات 2010 جري تزويرها وكان ما كان. لا بديل عن التمسك بحقنا وأداء واجبنا في اختيار نواب البرلمان القادم حتي لا تطل علينا أشباح الماضي وسوءاته ونندم ولا ينفع الندم.