بعد أسابيع قليلة سيُدعى الشعب المصري للاستفتاء على الدستور، فيما يسارع الكل إلى التجهيز للانتخابات البرلمانية، التي تشكل المرحلة الثانية في خريطة الطريق التي بدأت في الثالث من يوليو عقب إسقاط حكم جماعة "الإخوان". وسنكون أمام الحقيقة التي توارت كثيراً في غمرة الصراع، ومعها سيقف السؤال الذي لن نكل ولن نمل من طرحه، وبذل أي جهد مستطاع في سبيل إنتاج إجابة شافية كافية عليه، ألا وهو: كيف نصنع برلماناً يعبر حقيقة عن الشعب؟ وهنا يتجدد الحديث المكرور عن نزاهة الانتخابات. إن من إيجابيات الثورة أنها أحيت السياسة في النفوس والعقول والضمائر بعد ثلاثين عاماً من التمويت المقصود والمنظم. وبينما كان كثير من بسطاء الناس وبعض سُراتهم يشحذون هممهم استعداداً للاحتجاج المباشر في الحارات والشوارع والميادين تحت شعار "الثورة مستمرة" كانت الأغلبية الكاسحة تفكر في أن تستكمل الثورة عبر المسار الاعتيادي أو التقليدي الذي ذهبت فيه الثورة منذ استفتاء 19 مارس 2011. وهذا التفكير الدائم يحاول أصحابه أن يجيبوا على سؤال جوهري ومحوري هو: كيف نصنع انتخابات نزيهة؟ وهو سؤال كنا نظن أنه قد رحل مع رحيل مبارك عن السلطة؟ ثم سقوط حكم "الإخوان" الذين أرادوا أن يستعملوا "إجراءات" الديمقراطية لحيازة الحكم، ثم الانقضاض على كل شيء وتفصيله على مقاسهم، بما يفرغ النظام الديمقراطي من جوهره ويحوله إلى قشرة هشة، وعملية شكلية، لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت سائدة أيام مبارك، وإن تغيرت بعض الأساليب والحيل. ولكن ذهب نظامان وبقي السؤال: هل بوسعنا أن نصنع انتخابات عادلة نزيهة متكافئة؟ ودوماً كانت مصر تشهد نقاشاً عميقاً حول تجويد الآليات الانتخابية الراهنة أو مضاهاة المشروعات والتصورات التي قدمها كثيرون من أجل إدخال "التصويت الإلكتروني" إلى مصر، والجهد الذي بذله بعض الخبراء في سبيل أن يكون هذا النوع من التصويت المحوْسب دقيقاً ونزيهاً، بقدر ما هو منجز وسريع وشفاف، وكذلك إمعان النظر في التجارب الانتخابية لدول أخرى، سواء صاحبة الديمقراطيات الراسخة العريقة، أو تلك التي تحولت من الاستبداد والشمولية إلى الديمقراطية في موجتها الثالثة، التي بدأت مع بزوغ العقد الأخير من القرن العشرين. ولا سبيل إلى إنكار مدى انشغال قطاع من المواطنين المصريين بالانتخابات المقبلة، وخوفهم من العودة مرة أخرى إلى التزوير الممنهج أو الاعتباطي، أو أي طريقة أو حيلة للافتئات على الإرادة الشعبية، واختراع الألاعيب والخدع الماكرة التي تخل بنزاهة العملية الانتخابية، التي يعول عليها كثيرون في أنها الطريق إلى تحقيق ما يريده الشعب وما تطلبه الثورة، ولو بعد حين. والمخاوف تمتد من هندسة الدوائر الانتخابية، وهي اللعبة التي لعبها "الإخوان" بعد أن دان الأمر لهم عقب ثورة يناير وكانوا يعتزمون تكرارها بضراوة وإصرار، إلى المفاضلة بين النظامين الفردي والقائمة أو جمعهما مناصفة أو غير ذلك من نسب التوزيع، ثم مدى قدرة الأحزاب السياسية على اختيار الأفضل وطرحه على الناس؟ وما هو العرض الذي سيطرحه المستقلون في بلد تتآكل فيه قاعدة الأحزاب التي صارت أكثر من ستين حزباً، على رغم زخم السياسة وتزاحم المتنافسين على المواقع والمناصب؟ وهنا علينا أن نعرف العيوب القاتلة للانتخابات التي جرت في مصر على مدار العقود الماضية، والتي كانت آخرها أحد الأسباب المهمة لخروج الناس ضد مبارك ونظام حكمه، الذي كان يظن أنه راسخ كالجبال الرواسي. وتكاد القوى السياسية وعلماء السياسة وباحثوها يجمعون على المثالب والعيوب والثقوب التي تصم العملية الانتخابية في مصر. وهذه الآراء راحت تتجمع منذ أن أنشأ السادات سياسة المنابر، التي سمحت فيما بعد بإنتاج تعددية حزبية مقيدة، وجرت في ركابها منافسات انتخابية عارضة في عهدين، بعد أن ضاق السادات ذرعاً بنتائج انتخابات 1976، وقفز عليها. وتتبلور هذه الآراء في: 1 غياب تكافؤ الفرص بين المتنافسين في العملية الانتخابية، حيث كانت الإمكانيات المادية والمعنوية للدولة، توضع كاملة في خدمة مرشحي الحزب الحاكم، بينما يُحرم منها المعارضون. ووصل الأمر إلى درجة أن السلطة كانت تحبس بعض الحقوق المدرجة في الميزانية السنوية للمحليات، وتفرج عنها قبيل المواسم الانتخابية، وتعطيها لأيدي مرشحي الحزب الوطني، فيراهم الناس الأقدر على تقديم خدمات ضرورية طال انتظارها. 2 استخدام المال السياسي بإفراط لتقديم رشوة للناخبين، في استغلال قاس لعوزهم وحرمانهم. ولم يكن الأمر مقتصراً في هذا العيب على السلطة، وإن كانت هي الأشد وطأة لأنها الأكثر والأغزر مالاً، بل كان بعض المعارضين يقعون فيه أيضاً. 3 - عدم تنقية الجداول الانتخابية إلى درجة أن بعض من رحلوا عن دنيانا كانت أسماؤهم لا تزال متواجدة، وكانت السلطة تسود بطاقاتهم لصالح مرشحيها، أو التابعين لها، وقد صارت هذه ظاهرة أسمتها صحف المعارضة "تصويت الموتى"، وكانت تسرد في كل انتخابات قصصاً مضحكة في هذا المجال. 4 - غياب الإشراف القضائي على الانتخابات حتى عام 2005، وكان المشرفون تابعين لهيئات الدولة ومؤسساتها، وكان يتم اختيارهم بمعرفة رجال الحزب الحاكم من بين المتحيزين للسلطة أو المتهيبين منها والمنافقين لها. ولمَّا تم تمكين القضاء من الإشراف، أصبح هذا الإشراف ناقصاً. 5 - رفض طلب المعارضة الدائم بمشاركة "المجتمع المدني" أو ممثلين لهيئات أممية، وليس لحكومات أجنبية، في الإشراف على العملية الانتخابية أو مراقبتها. 6 استخدام "البلطجية" في عدم تمكين الناخبين الراغبين في التصويت لمرشحي المعارضة من الوصول إلى اللجان الانتخابية، بل في كثير من الحالات، تم منع بعض مرشحي المعارضة من الإدلاء بأصواتهم، ناهيك عن متابعة سير العمل في اللجان، على رغم أن هذا حق يكفله لهم القانون. 7 - تسويد جماعي للبطاقات الانتخابية لصالح مرشحي السلطة، واستخدام أشكال من التزوير منها "البطاقة الدوارة" والبطاقات الزائدة، والتزوير في جمع أرقام المصوتين، وإعلان نتائج غير حقيقية لصالح مرشحي الحزب الحاكم. 8 عدم التعامل بجدية مع الطعون التي تقدمها المعارضة ضد نتائج الانتخابات، وعدم تنفيذ أحكام القضاء ببطلان عضوية بعض نواب البرلمان بعد انتخابهم. فإذا نجح المصريون في وضع قانون وإجراءات لتلافي كل هذه العيوب يكونون قد وضعوا أسس انتخابات نزيهة، تأتي ببرلمان يعبر بصدق وأمانة عن الشعب، وبالتالي يكون بوسعه أن يشرع ما يحقق مطالب الثورة. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية