تمر الأيام وتحل الذكري وتهل ذكري 25 أبريل "عيد سيناء" ورغم أية تحفظات ورغم كل التحفظات فهو عيد بحق لا يخل به سيادة "مجروحة" أو بها خدوش مصيرها طال الزمن أو قصر إلي زوال بارادة وطنية لا تلين وبقوي جيش يعرف رسالته ويتحمل اعباءها وفي هذا فإن الذكري نافعة نافعة تتيح القاء نظرة إلي مستقبل مأمول كما تتيح فرصة ل "جردة حساب" مع عام مضي: ماذا فعلنا؟ ماذا انجزنا في سيناء كي تقف علي قدميها وتستطيع ان تواجه اخطارا تتهددنا وتهددنا فالموقف يتحدد استراتيجيا هنا كما حدده العلامة جمال حمدان رحمه الله في المعادلات التالية: من يسيطر علي فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الأول.. من يسيطر علي خط دفاع سيناء يتحكم في سيناء. من يسيطر علي سيناء يتحكم في خط دفاع مصر الأخير. من يسيطر علي خط دفاع مصر الأخير يهدد الوادي ومن هنا والكلام ايضا لجمال حمدان فإن سيناء أخطر وأهم مدخل لمصر علي الاطلاق انها "قدس أقداس مصر" بلغته الشاعرية التي تحيل الجغرافيا والتاريخ والاستراتيجيا إلي شعر ويكتب العلاَّمة قصيدة حب في وصف سيناء في أهميتها. في كونها واسطة العقد في منطقتنا العربية مما يجعلها "طريق الحرب" بالدرجة الأولي وهنا تفرقة أساسية بين "طريق الحرب" و"أرض المعركة" انها معبر أرضي جسر استراتيجي معلق أو موطئ عبرت عليه الجيوش منذ فجر التاريخ عشرات وربما حرفيا مئات المرات جيئه وذهابا تحتمس الثالث وحده عبره 17 مرة. ثم يضيف إنه ان تكن مصر ذات أطول تاريخ حضاري في العالم فإن لسيناء أطول سجل عسكري معروف في التاريخ تقريبا ولو أننا استطعنا ان نحسب معاملا احصائيا لكثافة الحركة الحربية فلعلنا لن نجد بين صحاري العرب وربما صحاري العالم رقعة كالشقة الساحلية من سيناء حرثتها الغزوات والحملات العسكرية حرثا. هذه الأغنية السيناوية لم ترد في موسوعة جمال حمدان "شخصية مصر" بل كتبها في كتاب ربما لم يلق ما يستحقه من الشيوع والانتشار وهو بعنوان: "6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية" وهو يقع في حوالي 400 صفحة ويبدو أنه كتبه في ظل أيام اكتوبر المجيد. اكتوبر 1973 وقد صدر الكتاب علي الارجح في النصف الثاني من عام 1974 وقبل انعقاد مؤتمر جنيف في نوفمبر من ذلك العام وفي هذا الكتاب يتجلي حماس جمال حمدان وتدفقه ومدي الآمال التي عقدها وبحق علي جولة 1973 ورغم الحماس فانه وضع هذه الحرب في اطارها الصحيح في جولات حروبنا ضد العدو الصهيوني وفي اطار التأثيرات الاستراتيجية العالمية التي خلفتها هذه الحرب والتي بددتها الإدارة السياسية للحرب ولم يكن هذا قد وضح كاملا عند كتابة هذا الكتاب الذي ان جاز أن نتجاوز حديثه عن الحرب وآثارها إلا أننا لا يمكن بحال ان نتجاوز حديثه الساخن عن سيناء وقيمتها واهميتها ولعل التقييم الحماسي للحرب يتضح من قوله: كلا ليست حرب اكتوبر التحريرية العظمي والماجدة مجرد المكافئ الموضوعي أو الرد الاستراتيجي علي نكسة يونيو وليس 6 أكتوبر الخالد مجرد نسخ او ناسخ ليوم 5 يونيو الحزين ففي يقين هذا الكاتب ان التاريخ سوف يسجل 6 اكتوبر كأخطر وأفعل مثلما هو اعظم واروع تحول مؤثر في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي المفعم وبالتالي في تاريخ العرب جميعا ومن ثم ودون افراط في المبالغة في تاريخ العالم المرئي وقد استشعر هو نفسه ان "الحماس اخذه" في أيام فاصلة مشحونة بالانفعالات المتوقدة والتوتر المضطرم والترقب المتلهف مما لا يترك مجالا للرؤية المتأنية ولا للفكر المتردي. والحقيقة ان حرب اكتوبر تستحق كل هذا الحماس والانفعال من قامة علمية في وزن جمال حمدان لولا ما جاء بعدها والذي تلخص يوما بأنها "آخر الحروب" وبأن أمريكا تملك 99% من اوراق اللعبة في المنطقة ومن هنا يبدو كلام جمال حمدان عن سيناء في موسوعة "شخصية مصر" أكثر هدوءا وموضوعية دون أن يخل بالحقيقة التي سجلها بتعبيرات فذة من قيمة حرب اكتوبر في ذاتها وعن كونها السبب في تحرير سيناء وفي قبول "مناحيم بيجين" في كامب ديفيد 1978 وما تلاه الخروج من سيناء كان بيجين يتحرك ويحاور ويناور وفي ذهنه ما حدث لإسرائيل وجيشها في الأيام الأولي من حرب العبور وما لا نريد تكراره كان أداء الرجال جنوداً وصف ضباط وضباطاً وقادة أداء خارقا رآه العدو "مفاجأة" وما هو بمفاجأة بل تعبير حقيقي عن شجاعة المقاتل المصري. بن جوريون والهدف في سيناء إن هذا يعيدنا إلي نظرة خاطفة علي مطامع الإسرائيليين في سيناء في الحاضر وفي الماضي القريب والتي حددتها كلمات قليلة كتبها "ديفيد بن جوريون" أول رئيس وزراء إسرائيلي وأحد الثلاثة الكبار الذين اقاموها الآخران هما تيودور هيرتزل وحاييم وايزمان في كتابه "سنوات التحدي" حيث يقول "ان هدف إسرائيل هو عدم البقاء في سيناء ولكن منع المصريين من البقاء فيها ولذلك وقف في الكنيست في 7 نوفمبر 1956 ومعارك العدوان الثلاثي لاتزال مستمرة ليعلن ان الهدنة مع مصر انتهت وقال ما معناه: لقد عدنا إلي أرض الآباء الغربية" ومؤشرات هذه الاطماع والمخططات مستمرة ولاتزال وهي تتردد كثيرا علي السنة كثير من الاسرائيليين ساسة وعسكريين ورجال احزاب وباحثين ولعل أنباء الأيام القليلة الماضية تفضح كل هذا الاتهام بأن صواريخ أطلقت علي إيلات خرجت من سيناء والدعوة إلي واشنطن كي تضغط علي القاهرة لتزيد نشاطها ضد الإرهابيين في سيناء ثم أخيرا وليس آخرا شبكة تجسس!! إذا كان ذلك كذلك فلماذا خرجت إسرائيل من سيناء بعد عدوان 56 الثلاثي لقد أخرجت اضطرارا وليس رغبة ونتيجة عوامل محددة: وقفة الشعب المصري الجسور ومقاومته الباسلة في بورسعيد. التفاف الرأي العام العالمي تأييدا لمصر وادانة للمعتدين. الانذار السوفيتي لإسرائيل. ضغط أمريكا طمعا في وراثة نفوذ بريطانيا وفرنسا في المنطقة. وبالمثل فإن إسرائيل لم تنسحب من سيناء في السنوات التالية لحرب أكتوبر إلا نتيجة لهذه الحرب وحتي لا تتكرر المعارك والهزائم مرة أخري مع مصر التي قال بن جوريون "انها أكبر عدو لنا" ولذلك كان إخراج مصر من دائرة صراعها مع العرب هدفا أساسيا وقد حققت هذا في كامب ديفيد .1978 نقل المعركة خارج سيناء ونعود إلي جمال حمدان ونظرته الشاملة والاستراتيجية إلي سيناء فهو لا ينظر إليها بمعزل عما يجاورها خاصة النقب الذي يصفه بأنه "سيناءفلسطين".. ويخلص من هذا إلي حقيقة يعبر عنها بقوله: إن القناة التي كانت عنق الامبراطورية في العصر الاستعماري قد أصبحت عنق مصر المستقلة.. ولكن سيناء أصبحت رقبة أخري لمصر.. من هنا يتحول المبدأ الاستراتيجي في الأمن القومي إلي الشعار الآتي: دافع عن سيناء تدافع عن القناة تدافع عن مصر جميعا موقفا ووضعا ثم يقرر مبدأ يستحق الاهتمام فيقول: "استرشادا بهذا المبدأ. وانطلاقا من ظاهرة تقلص العمق الاستراتيجي لسيناء. يتحتم علي مصر الآن ان تنقل المعركة خارج سيناء أي ان تنتقل بمصر من الدفاع إلي الهجوم كما كان المبدأ المسود في مصرالقديمة والإسلامية انه نصف النصر" هل هذا يحتاج إلي شرح وتوضيح؟ هذا ما يورده جمال حمدان بقوله: ان فرص النصر المصري كانت تزداد كلما كانت المعركة أبعد من قلب الوطن.. فقديما وفي المتوسط العام كانت معاركنا في رفح أكثر انتصارا من معاركنا في بيلوزيوم "أي بورسعيد حاليا".. مثلا انتصر قمبيز حليفا في بيلوزيوم فانفتح الطريق أمامه إلي مصر بلا عوائق وفي الصليبيات "أي الحروب التي عرفت بالصليبية" موجة هلكت وبادت علي طريق سيناء عند سبخة البردويل فانتهي أمرها.. ولكن أخري نجحت في التسلل عبر صحراء سيناء وصحراء شرق الدلتا فهددت القاهرة حتي لزم إحراقها دفاعا.. كذلك هدد القرامطة القاهرة حينا بعد أن نجحوا في التسلل عبر الصحراء. وفيما بعد حين ظهر الخطر العثماني علي أفق الشام أسرعت مصر فخرجت كما ينبغي لها إلي ملاقاته في أقصي الشمال. لكنها هزمت في مرج دابق تقهقرت بسرعة إلي العاصمة فلم تصمد في ريدانية القاهرة.. وهكذا وهكذا". في هذا اليوم في 25 أبريل 2013 أي بعد أكثر من ثلاثة عقود علي "تحرير سيناء" هل هذا حديث حرب؟ بالعكس انه حديث عن الدفاع في وقت تتكاثر فيه الأخطار في سيناء كما تتكاثر الأطماع.. وفي وقت تبدد فيه - كما لم يتبدد من قبل - الحلف العربي الذي حقق نصر أكتوبر وفتح الطريق إلي تحرير سيناء الذي لن يكتمل إلا بتعميرها تعميرا شاملا وإلا بملئها بالبشر.. وهذه وعود كل 25 أبريل ثم تمضي الذكري فلا أحد يتذكر وهذا ما لا يجوز واسلمي يا مصر.