الشعر كان طريقه إلى كل سر بعيد، طريقه نحو الخلود، عطره الذي يتعطر به، أزهار الياسمين التي لا تذبل أبداً، سيفه الذي يصارع به الصمت فتجيبه الموسيقى، مفرداته التي يصوغ بها عالمه، مغامرته التي يعيد بها اكتشاف وجوده، أداته التي يخلق بها وطنه المفقود. ووطن أمل الأول كان قريته "القلعة"التي ولد بها 1940 التابعة لمركز "قفط" بمحافظة "قنا" ولأن أمل كعادته وفيّ لوطنه يبدو تأثير رحيله عن "قريته " واضحاً في قصيدته "مقتل القمر" من ديوان يحمل نفس الاسم فيقول: قُتِل القمر شهدوه مصلوباً تَتَدَلَّى رأسه فوق الشجر ! نهب اللصوص قلادة الماس الثمينة من صدره! تركوه في الأعواد، كالأسطورة السوداء في عيني ضرير ويقول جاري : -(( كان قديساً ، لماذا يقتلونه ؟)) وتقول جارتنا الصبية : - (( كان يعجبه غنائي في المساء وكان يهديني قوارير العطور فبأي ذنب يقتلونه ؟ وما القمر هنا إلا رمز للشاعر نفسه الذي ترك قريته وترك معها هدوءه النفسي وجماله الروحي وثقته بالحياة نازحاً إلى المدينة ليلقى مصرعه وسط الزحام والضجيج وبرودة المشاعر واغتراب أهل المدن. وإلى الإسكندرية التي قضى فيه الشاعر أيام صباه يقول في قصيدة "براءة" من نفس الديوان "مقتل القمر": أحس حيال عينيك بشيء داخلي يبكي أحس خطيئة الماضي تعرت بين كفيك وعنقودا من التفاح في عينين خضراوين أأنسى رحلة الآثام في عينين فردوسين؟ وحتى أين؟ تعذبني خطيئاتي .. بعيدا عن مواعيدك وتحرقني اشتهاءاتي قريبا من عناقيدك ! ولم تعرف الشهرة طريقها إلى أمل دنقل إلا من خلال حبه لوطنه الأم مصر مع هزيمة يونيو67 فمن رحم المآسي الكبيرة يولد الشعراء الكبار، ومن رحم هزيمة يونيو ولدت كلمات قصيدته الأشهر "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" * التي عنون بها ديوانه الأول وكانت سبباً في تعريف الجمهور به. ارتبطت بالجرح القومي الأكبر" هزيمة 67" وكانت تعبيراً عميقاً وصادقاً عن موقف عنترة " الشعب العربي" الذي تركه الحكام في صحراء الإهمال يسوق النوق إلى المرعى ويحتلب الأغنام ويجتر أحلام الخصيان حتى إذا ما اشتدت الحرب وأعلنت المعركة ذهبوا إليه يستصرخون فيه روح الحمية ويدعونه إلى الدفاع عن قصورهم المضاءة بالمسرات وألوان الترف" 1. تكلمي ...أيتها النبية المقدسة لا تسكتي .. فقد سكت سنة فسنة لكي أنال فضلة الأمان قيل لي اخرس فخرست وعميت ائتممت بالخصيان ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان أجتز صوفها أرد نوقها أنام في حظائر النسيان طعامي الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة وها أنا في ساعة الطعان ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان دعيت للميدان أنا الذي ما ذقت لحم الضان أنا الذي لا حول لي أو شأن أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان أدعي الى الموت ولم أدعَ الى المجالسة وصفوه ب "الشاعر الصعلوك" ولم يحزن أمل فلم يكن" من شعراء الحواضر والصالونات المعطرة والبدلات الأنيقة والسيارات الفارهة....بل " وصل الحال به وبزميله حسن توفيق إلى أن يتبادلا ارتداء قميص واحد ...، فإذا خرج أحدهما انتظر الآخر حتى يعود زميله" 2 فقد صاغ أمل معاناة طبقات المجتمع التي طحنها الجوع والعوز وارتفاع الأسعار وكانت تمتهن كرامتها للحصول على لقمة العيش فهي لا تستطيع إشباع حاجاتها المادية ولا حاجاته المعنوية فيقول في قصيدته" يوميات كهل صغير السن" جاءت إلي وهي تشكو الغثيان والدوار (.. أنفقتُ راتبي على أقراص منعِ الحمل!) ترفع نحوي وجهها المبتل.. تسألني عن حل! هنأني الطبيبُ! حينما اصطحبتها إليه في نهاية النهار رجوته أن يُنهي الأمر? فثار (.. واستدار يتلو قوانين العقوبات علىّ كي أكفَّ القول!) هامش: أفهمته أن القوانين تسن دائما لكي تُخرق أن الضمير الوطنيَّ فيه يُملي أن يقل النسل أن الأثاث صار غاليًا لأن الجدبَ أهلك الأشجار لكنه.. كان يخاف الله.. والشرطةَ.. والتجار! وربط أمل ببراعة في أبياته السابقة بين أقراص منع الحمل وارتفاع أسعار الأثاث والجدب الذي أهلك كل شئ حتى الأشجار. والمتأمل في شعر أمل يجده نابضا من قلب مصر فقد كتب قصيدته " أغنية الكعكة الحجرية" وسط مظاهرات الطلاب فى يناير 1972 ويقول فيها محدثا مصر: اذكريني! فقد لوثتنى العناوين فى الصحف الخائنة! لونتنى.. لأنى - منذ الهزيمة - لا لون لى.. (غير لون الضياع!) قبلها؛ كنت أقرأ فى صفحة الرمل.. (والرمل أصبح كالعملة الصعبة، الرمل أصبح: أبسطة.. تحت أقدام جيش الدفاع) فاذكرينى؛.. كما تذكرين المهرب.. والمطرب العاطفى. وكاب العقيد.. وزينة رأس السنة. اذكرينى إذا نسيتنى شهود العيان ومضبطة البرلمان وقائمة التهم المعلنة ويعبر أمل في قصيدته " صلاة" التي تأتى في مقدمة ديوانه "العهد الآتي" عن قبضة جهاز الشرطة الحديدية التي كانت تحكم مصر وطغيان وجبروت هذا الجهاز الذي وصل بمقتضاه إلى درجة التأله . أبانا الذي في المباحث، نحن رعاياك باق لك الجبروت، باق لك الملكوت وباق لمن تحرس الرهبوت تفرّدت وحدك باليسر إن اليمين لفي خسر أما اليسار ففي عسر إلا الذين يماشون إلا الذين يعيشون.. يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعيشون إلا الذين يوشون إلا الذين يوّشون ياقات قمصانهم برباط السكوت الصمت وشمك.. والصمت وسمك.. والصمت أنى التفتّ يرون ويسمك والصمت بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين يلف الفراشة والعنكبوت لذا، يخاطب أمل دنقل جماهير الشعب المقهورة ناصحاً إياهم ألا يرفعوا الرؤوس في قصيدته " كلمات سبارتاكوس الاخيرة" فيقول" فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق فسوف تنتهون مثله .. غدا وقبّلوا زوجاتكم .. هنا .. على قارعة الطريق فسوف تنتهون ها هنا .. غدا فالانحناء مرّ .. والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى فقبّلوا زوجاتكم .. إنّي تركت زوجتي بلا وداع وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلا ذراع فعلّموه الانحناء ! ..علّموه الانحناء ! الله . لم يغفر خطيئة الشيطان حين قال لا ! والودعاء الطيّبون .. هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى لأنّهم .. لا يشنقون ! فعلّموه الانحناء .. ليس ثمّ من مفر لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد ! وخلف كلّ ثائر يموت : أحزان بلا جدوى ..ودمعة سدى ! ويرث أمل نفسه فى قصيدته "الجنوبى" من ديوانه الأخير "أوراق الغرفة 8" وهى الغرفة التي كان يعالج بها فى المستشفى من مرض السرطان الذى وافته المنية على إثره عام 1983 فيقول: هل أنا كنت طفلاً أم أن الذي كان طفلاً سواي هذه الصورة العائلية كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي الى أن يقول أحدق لكن تلك الملامح ذات العذوبة لا تنتمي الآن لي والعيون التي تترقرق بالطيبة الآن لا تنتمي لي صرتُ عني غريباً ولم يتبق من السنوات الغريبة الا صدى اسمي وأسماء من أتذكرهم -فجأة- بين أعمدة النعي إنه أمل دنقل الذي عاش من أجل هذا الوطن ولكم تمنيت أن يكون بين ظهرانينا الآن ليرى هذه ثورة هذا الشعب العظيم الذي ما كتب يوماً قصيدة إلا من الشعب وإليه. ** زرقاء اليمامة امرأة حقيقية من بنى جديس من أهل اليمامة في اليمن كان يضرب بها المثل في حدة النظرة، وقالوا إنها كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام، وأنذرت قومها بجيش حسان بن تبع الحميرى، ولكن لم يصدقوها فاجتاحهم حسان. 1-2 الأعمال الكاملة لأمل دنقل