حين انقلب التحالف العلمانى العسكرى على الديمقراطية فى الجزائر يوم 11 يناير 1992، لم يكن يدرك أن هذا الانقلاب سيكلف الجزائر ثمنا باهظا، آلاف القتلى والمشوهين والمفقودين، مع توقف شبه تام للاقتصاد والعمران، وانتشار الرعب فى كل مكان، يخرج الرجل (أو السيدة) من بيته ولا يدرى إن كان سيعود أم لا! كان ذلك هو الثمن الباهظ للانقلاب على الشرعية، والقفز على نتائج الانتخابات البرلمانية الشفافة، عشر سنوات من الدماء والدمار طالت اليابس والأخضر، فتنة لم تصب الذين ظلموا خاصة، بل تعدتهم إلى غيرهم من المدنيين الأبرياء، ولم تتوقف إلا بإعلان زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ عباسى مدنى فى 13 نوفمبر 2003 مبادرة لإنهاء العنف، والخروج بالبلاد من أزمتها السياسية، وإذا كانت تلك الفتنة قد حدثت فى الجزائر عن غير وعى لتداعياتها فإن البعض يخطط لحدوثها فى مصر عن وعى كامل، وبأثمان مدفوعا مقدما. كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ قد فازت فى 26 ديسمبر 10991 فى الجولة الأولى بأغلبية 188 مقعدا من بين 340 مقعدا فى مجلس النواب، تلاها حزب جبهة القوى الاشتراكية ب25 مقعدا ثم جبهة التحرير ب16 مقعدا، وهو ما أثار حفيظة القوى اللائكية "العلمانية" التى ضغطت بقوة على الجيش للتدخل ووقف الجولة الثانية للانتخابات لوقف تقدم الجبهة الإسلامية، وهو ما حدث فعلا يوم 11 يناير (الموعد المقرر للجولة الثانية) حين أجبر العسكر الرئيس الجزائرى وقتها الشاذلى بن جديد على تقديم استقالته، وتم قبولها على الفور، ليحكِم الجيش قبضته على السلطة تماما، ووضع على رأس السلطة السياسية شخصية تاريخية هو محمد بوضياف الذى قتل فى أثناء خطاب عام يوم 29 يونيو 1992. يروى قائد الانقلاب الحقيقى الجنرال خالد نزار، وزير الدفاع السابق، فى مذكراته "الجزائر إيقاف تقهقر مبرمج" ملابسات ذلك الانقلاب مدعيا "أن فوز الإنقاذ (فى الدور الأول) زرع الهلع فى الرأى العام، خاصة بعد التصريحات التهديدية لقادتها، فتحركت جمعيات المجتمع المدنى بالتزامن مع مظاهرات جبهة القوى الاشتراكية التى ساندها الجيش الذى دعا المجتمع المدنى والمجاهدين (القدامى) والأحزاب الديمقراطية والمنظمات الجماهيرية إلى التحرك، وفى 30 ديسمبر اتخذ الجيش قراره بالتحرك للحيلولة دون حصول الإنقاذ على الأغلبية المطلقة فى البرلمان". يضيف نزار: "توقيف المسار الانتخابى لم يكن بالنسبة لنا أمرا سهلا إطلاقا، لكنه كان الحل الوحيد لإنقاذ الديمقراطية الفتية والدولة، أعلمنا مسبقا أغلب قيادات الدول المتوسطية بقرارنا، باستثناء الرئيس الفرنسى، كونه يتفهم أطروحات جبهة الإنقاذ، ولما اتفق العسكريون والمدنيون على رحيل بن جديد، حرَّر الجنرال محمد تواتى وعلى هارون رسالة الاستقالة التى سيقرأها "الشاذلى" على التليفزيون، وقد قُدمت له مسبقا كاقتراح فقبلها، ولعب المجلس الدستورى الدور الكبير؛ لأننا أردنا أن يبقى تحركنا فى إطار القانون". كانت الخطوة التالية لإلغاء نتائج الانتخابات فى الجولة الأولى مع إلغاء الجولة الثانية، هى حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتسليم كل البلديات التى سبق للجبهة الفوز بها إلى رؤساء معينين من قبل الجيش. كانت ردة الفعل الأولى لتلك الإجراءات اشتباكات بين أنصار الجبهة الإسلامية وقوات الأمن، تبعها فرض حالة الطوارئ، واعتقلت السلطات قادة الجبهة عباسى مدنى وعلى بلحاج وعبد القادر حشانى، ثم كل نواب وكوادر الجبهة التى فازت فى البلديات، وفتحت السلطات معتقلا فى الصحراء ليسع آلاف المعتقلين الإسلاميين، وكل ذلك بهدف قمع الجبهة وإسكات صوتها إلى الأبد.. فهل نجحت الخطة؟! فور اختفاء قادة الجبهة، سواء بسبب الاعتقال أو الهرب إلى الخارج، ظهرت على الفور ميليشيات مسلحة حاربت الجيش وقوات الأمن بشراسة، ودارت الحرب بين الطرفين فى كل المدن الجزائرية تقريبا، وخلفت آلاف القتلى والمشردين والمفقودين، وأفقدت الاقتصاد الجزائرى المليارات. الانقلابيون فى مصر يتحركون الآن باتجاه فوضى عامة فى البلاد لن تقل فى تأثيراتها عما حدث فى الجزائر، لا يهمهم كم سيسقط من الأبرياء، ولا كم سينزف الاقتصاد، لقد توفرت على مدار الأيام الماضية الأدلة الكافية على العنف الممنهج، وعلى خطط الحرق والقتل والتخريب، ونشر العديد من النشطاء معلومات عن خطط حربية وتخريبية لمنشآت خاصة وعامة، وتعطيل مرافق عامة، وقطع طرق ومواصلات، وسيارات لنقل كسر الرخام، واستئجار شقق سكنية مقابل قصر الاتحادية، وعمليات تخزين وتكديس أسلحة أصبحت بالفعل فى أيدى الصبية استخدموها بالفعل خلال مواجهات الأيام الماضية، وسيستخدومنها بكثافة خلال الحشود الكبيرة. خبرة التجربة الجزائرية المؤلمة لم تغب عن بال الإسلاميين فى مصر، ولا ينبغى أن تغيب عن أذهان الليبراليين واليساريين، فعنف السنوات العشر فى الجزائر لم ينته إلا بعد اعتراف ورثة الحكم العسكرى العلمانى بخطيئتهم، والدخول فى مصالحة تاريخية مع مَن انقلبوا عليهم شملت عفوا عاما عن المحكومين والهاربين، وإطلاق سراح قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والسماح بمشاركة أحزاب إسلامية متعددة فى العملية الديمقراطية الناقصة، يا لها من تجربة مؤلمة!!!