نعرض هنا لمواطن الثبات وهى كثيرة ومتعددة نذكر بعضها بإيجاز: أولاً: الثبات فى الفتن: إذا تعرَّض القلب لفتن السَّرَّاء والضَّرَّاء، فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمَّر الإيمان قلوبهم. ومن أنواع الفتن: 1- فتنة المال: قال الله تعالى: "ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ" (التوبة: 75، 76). 2- فتنة الجاه: قال الله تعالى: "واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِى يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" (الكهف: 28). 3- فتنة الزوجة والأولاد: قال الله تعالى: "إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ"(التغابن: 14). 4- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم: ويُمثِّلها أروع تمثيل قول الله عز وجل: "قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ"(البروج: 4 - 9). يقول الشَّهِيد سيِّد قطب: "كذلك تنتهى رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة.. روعة الإيمان المستعلى على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة، والانطلاق المتجرد من أَوْهَاق الجسم وجاذبية الأرض، فقد كان فى مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم فى مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم فى الدنيا قبل الآخرة! وكم كانت البشرية كلها تخسر! كم كانوا يخسرون وهم يَقْتُلون هذا المعنى الكبير.. معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد. إنه معنى كريم جدًّا، ومعنى كبير جدًّا هذا الذى ربحوه وهم بعد فى الأرض ربحوه وهم يجدون مسَّ النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذى تزكيه النار، فتحترق أجسادهم، وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب.. يعقب به السياق.. بهذه الخاتمة يستقرّ الأمر فى نصابه، وهى الخاتمة الحقيقية للموقف، فلم يكن ما وقع منه فى الأرض إلا طرفًا من أطرافه، لا يتم به تمامه، وهذه هى الحقيقة التى يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث؛ لتستقر فى قلوب القلَّة المؤمنة فى مكة، وفى قلوب كل فئة مؤمنة تتعرَّض للفتنة على مدار القرون، ثم تتوالى التعقيبات". روى البخارى عن خَبَّاب بن الأَرتّ رضى الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بُرْدَة فى ظلِّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحْفَر له فى الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيُوضَع على رأسه فيُشَقّ باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويُمْشَط بأمشاط الحديد، ما دُون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدُّه ذلك عن دينه". وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن يقول النبى صلى الله عليه وسلم: "تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير عُودًا عودًا، فأى قلبٍ أُشْرِبها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأى قلب أنكرها نُكِتَ فيه نكتةً بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا، فلا تضرُّه فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مِرْبادًّا كالكُوزِ مُجَخِيًّا لا يَعْرِفُ معروفًا ولا يُنْكِر منكرًا إلا ما أُشْرِبَ من هَوَاه". ثانيًا: الثبات فى الجهاد: قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا" (الأنفال: 45)، وقال الله تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ *ولَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وأَنتُمْ تَنظُرُونَ"(آل عمران:142 - 143). إن صيغة السؤال الاستنكارية يُقْصَد بها التنبيه بشدَّة إلى خطأ هذا التصور.. تصور أنه يكفى الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت!! فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدى تكاليف الإيمان، وأن ينتهى إلى الجنة والرضوان.. إنما هى التجربة الواقعية والامتحان العملى، وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء. ثالثًا: الثبات على المنهج: قال الله تعالى: "مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" (الأحزاب: 23)، مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل، لا شىء إلا لأنهم عندما بايعوا على المنهج كانوا يبايعون الله تعالى، وكانت يد الله فوق أيديهم، وكانوا على ثقة تامة بسلامة المنهج وصحته واستعدادهم للبذل والتضحية من أجله، ومن ثَمّ الثبات عليه ابتغاء الأجر والمثوبة من الله سبحانه وتعالى. رابعًا: الثبات أمام بطش الظالمين: يُعْتَبر البطش والتنكيل من أساليب المبطلين الشائعة والمتكررة عبر التاريخ، حين يغيظهم استمساك أهل الحق وصلابتهم، فيثورون عليهم محاولين القضاء عليهم -إن استطاعوا- أو إزاحتهم عن طريقهم على الأقل بكل الوسائل الدنيئة، وقد ذاق الصحابة الكرام العذاب ألوانًا من أعدائهم، فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا. - فهذا بلال رضى الله عنه يُجرَّد من ثيابه ويُلْقَى على نار البطحاء، وتُوضع الصخرة العظيمة الملتهبة على صدره، فلا يزال يعلن عقيدته: (أَحَدٌ.. أَحَد)، مستخفًّا بهؤلاء الظالمين، متحديًا لهم، مُصِرًّا على مبدئه مُعتزًّا به مهما لاقى فى سبيله. - وهذا خبَّاب بن الأرت، رضى الله عنه، يلقونه على فحم ملتهب، ويضعون الصخرة فوقه؛ حتى لا يستطيع فكاكًا من حريقه. - وهذا أفلح رضى الله عنه -مولى بنى عبد الدار- يربطونه من رجليه ويجرونه بخيولهم ليسحلوه. - وهذا عثمان بن عفان رضى الله عنه يلفُّه عمه بحصير، ثم يدخن عليه ليخنقه فيه. ولما طال أمد العذاب والبلاء ذهبوا يلتمسون الخلاص عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: يارسول الله، أهكذا الدَّهر؟ ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فلم يجبهم إلى ما أرادوا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم سُنَّة الله فى الدعوات سابقًا ولاحقًا، وما كان لمثله صلى الله عليه وسلم أن يصادمها أو يعترض طريقها، وإنما هو أول من يسايرها ويوافقها، فما زاد صلى الله عليه وسلم على أن ذكَّرهم بِمَن سبقوهم على درب الإيمان؛ حيث كان يُؤْتَى بالرجل منهم فيُحْفر له حفرة فيوضع فيها، ثم يُؤْتَى بالمنشار فيُشَقُّ نصفين، ويُمَشَّط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، فلا يردُّه ذلك عن دينه، ثم لم يَفُته صلى الله عليه وسلم فى هذا المقام أن يبشِّرهم ويبعث فيهم الأمل بقوله: "والله ليُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". خامسًا: الثبات عند علوِّ الأعداء: فقد يُصَاب الإنسان بحالة من اليأس والقنوط عند ارتفاع شأن الأعداء وعلو راياتهم، ولكن المسلم الواثق بنصر الله تعالى والواعى لدينه العامل له بإخلاص وتجرد يعى تمامًا أن الحرب جولات، وأن النَّصْر للمؤمنين حين يستوفون موجباته، وأن عُلُوّ الباطل وأعوانه ما هو إلا لوقت محدود، وأن العاقبة لمن اتقى. يقول الشَّهِيد سيد قطب: "وإن العاقبة للمتقين طال الزمن أم قصر، فلا يُخالِج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير، ولا يُخايل لهم تقلُّب الذين كفروا فى البلاد، فيحسبونهم باقين. إن الناس كلهم يموتون، ولكن الشُّهَداء فى سبيل الله هم وحدهم الذين يُسْتَشْهَدُون، وهذا فضل من الله عظيم، قال تعالى: "لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى البِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ ومَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ" (آل عمران: 195 - 198). سادسًا: الثبات فى الميدان عند الزحف: فحين تتقابل الصفوف والرايات فى ساحة من الساحات يكون الثبات هو واجب الساعة؛ امتثالاً لأمر الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الأنفال: 45). والثبات هنا مطلوب لغايتين: أولاً: أن يبقى أُسْدُ الحقِّ يصولون فى الميدان ويجولون، ورايات الحقِّ تخفق فى أيديهم، يعلنون الانتصار، ويضطرون أتباع الباطل إلى الانهزام والفرار. والثانية: أن يمنعوا ما وراءهم من قيم ومبادئ ومناهج وحرمات من أن يعتدى عليها معتدٍ أو يرومَها بسوء. ومن ثَمّ نعرف سرَّ الحرص العجيب على بقاء الراية مرفوعة مرفرفةً، كما رأينا من موقف جعفر رضى الله عنه؛ حيث لم تسمح نفسُه الأبيَّة بتنكيس الراية حتى بعد قطع كلتا يديه، فاحتضنها بعَضُدَيْه، فكان جزاؤه من مثل عمله؛ حيث أبدله الكريم عز وجل عوضًا عنهما جناحين يطير بهما فى أرجاء الجَنَّة حيث يشاء، ومن ثَمّ أيضًا نعرف سرَّ العقوبة الهائلة الزاجرة للفرار عند الزحف، كما جاء فى قوله تعالى: "ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ومَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصِيرُ" (الأنفال: 16). سابعًا: الثبات مع كرِّ الأيام والليالى: فقد يُفَرِّط المرء فى مبدئه وتسترخى قبضته عن دور الحق الذى معه لمجرد كرِّ الأيام والليالى، ويُعتبر طولُ الأمد من أخطر الأسباب الصارفة عن الطريق، حيث لا يواجه المرء هنا عدوًّا ماثلاً يريد استلاب دينه وعقيدته، فيُفَجِّر فيه طاقة التصدِّى والتحدِّى؛ ولذلك اعتبر القرآن أهل هذا النوع من الثبات صفوةَ المؤمنين، فقال تعالى: "مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" (الأحزاب: 23). ومن توفيق الله عز وجل للأستاذ البَنَّا -رحمه الله- أن اختص ركن الثبات بهذا المعنى، فقال: "وأريد بالثبات أن يظلَّ الأخ عاملاً مجاهدًا فى سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك، وقد فاز بإحدى الحسنيين، فإما الغاية وإما الشهادة فى النهاية، (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23)، والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى، بعيدة المراحل، كثيرة العقبات، ولكنها وحدها التى تؤدى إلى المقصود، مع عظيم الأجر وجميل المثوبة". ثامنًا: الثبات عند الممات: قال الله تعالى: "إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ" (فصلت: 30)، والثبات فى هذا الموقف لن يتم إلا بجهدٍ جهيد، وعملٍ دءوبٍ ومتواصل، وإخلاصٍ وتجردٍ تَامَّيْن لله سبحانه؛ ليتمَّ التثبيت عند الممات.