بعد أيام من إعادة افتتاح مسجد "آيا صوفيا" التاريخي في تركيا، تقوم جرافات العسكر بهدم آثار ومقابر المماليك، فتزعم وزارة الآثار أنها ستشكل لجنة لدراسة الأمر، ويسخر مراقبون بأن اللجان لا تتشكل بعد الهدم، بينما تصان الكنائس ومقابر اليهود وينفق على صيانتها وتجديدها عشرات الملايين من الجنيهات، ويمضي المراقبون بالقول لو كانت هذه قوات احتلال لما فعلت في تراث مصر ذلك! وبينما تكرس الأمم والشعوب جهودها للذود عن تاريخها وتجميل ما تشوه منه والدفاع عما تبقى من أجل الأجيال القادمة، فإن الوضع في مصر يختلف شكلًا ومضمونًا، فالتاريخ يُمحى تحت عجلات جرافات الانقلاب وأقدام جنرالات الخراب العابثين المتوهمين أن عصرنة البنايات تعوض سقوط مئات القرون على الأرض. جمهورية الكباري..! استيقظ المصريون على صور متداولة لإزالة عشرات المقابر من صحراء المماليك، بدعوى التوسعة لإقامة محور الفردوس، في إطار توسعة شبكات الطرق والجسور في مصر، التي تحظى بالنصيب الأبرز من غباء العسكر. الجدران المهدمة التي يعود تاريخها لقرون مضت جاءت بمثابة الصدمة للشارع المصري، لا سيما المهتمين بالآثار وتاريخ بلادهم وحضارتهم العريقة، فمثل تلك الأعمال التي تمحي الأثر والحجر معًا لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تبني دولة على طراز عصري، على حد تعبيرهم. وذلك في الوقت الذي تبذل فيه عصابة الانقلاب جهودًا مضنية لتطوير التراث اليهودي والمسيحي، عبر ميزانيات مفتوحة، إذ بها تنتهج سياسة أخرى مع الآثار الإسلامية، فتلك ليست المرة الأولى التي تزيل فيها حكومة الانقلاب أثرًا إسلاميًا، وهو ما يثير التساؤلات عن دوافع هذه الإستراتيجية المثيرة للشكوك. فيما ذكّر آخرون بالترميم الذي حدث سابقا للمعابد اليهودية في مصر، بالإضافة إلى إعطاء تراخيص بناء كنائس جديدة، بينما يتم هدم عشرات المساجد بدعوى مخالفتها وإقامتها على أراضي الدولة، والآن يتم الشروع في هدم آثار إسلامية لا تعوَّض. وتعد مقابر المماليك أقدم جبانة إسلامية في مصر، وتحتل موقعا متميزا وسط العاصمة، وكانت تسمى قديما ب"صحراء العباسية"، إذ وقع اختيار المماليك عليها لتكون مضمارا لسباقات الخيل، وفي النصف الأول من القرن الثامن الهجري بدأ ملوك مصر وأمراؤها بإنشاء المساجد والخوانق بهذه المنطقة والحقوا بها مدافن لهم. وقرافة المماليك الواقعة ناحية الشرق بجوار طريق صلاح سالم، مثلت أول محاولة لإعمار الصحراء في العصر المملوكي، فقد حاول أمراء وسلاطين المماليك البحرية أن يقوموا بإعمار المنطقة عن طريق إنشاء مقابر لهم هناك، بالإضافة إلى المساجد الصغيرة، وقويت هذه المحاولات في العصر المملوكي الجركسي، خصوصا فى عهد السلطان الناصر فرج بن برقوق، عندما قام بإنشاء خانقاه له. وانتشرت حالة واسعة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد تداول صور تظهر هدم "جبانة المماليك" التي تعود لنحو 5 قرون، وهو ما أثار حالة من الغضب، فهل بالفعل أقدم جنرال الغباء العسكري على هدم تلك المنطقة التراثية من أجل إنشاء محور الفردوس؟ مدونة في اليونسكو ومن بين ردود الأفعال المنتشرة نجد تساؤل هاني راجي على حسابه في تويتر، حيث يقول: "هل يمكن أن يخرج علينا مسئولو الآثار ومحافظة القاهرة بتفسير للصور والأخبار المتداولة عن تحطيم قبور ومبانٍ أثرية نواحي الفسطاط لإنشاء طريق أو كوبري؟ ما التصريح الرسمي؟ لنفهم؟". فأجابه إبراهيم عبد المجيد: "ولا حد حيتكلم. ولو اتكلموا حايقول لك مش آثار رغم إن كل اللي يعرفها بيقول مدونة في اليونسكو. هدم آثار ونبش قبور لأسماء تاريخية. عادي. التاريخ بيبدأ مع البلدوزر". أما محمد راشد فقد علّق ساخرا: "زي ما هو التعليم لا ينفع في وطن ضايع، برضه الآثار لا تنفع في وطن جائع، لم يرحم المصريين أحياء أو أموات. هدم مقابر ترب الغفير وصحراء المماليك لأجل شبكة طرق تمسك مصر كده، نفس ما حدث في قبر المقريزي ومقبرة ابن خلدون، لك الله يا مصر". أما عمرو رضا فقد نشر على حسابه تأكيدا لإدراج "المنطقة كلها بكل مبانيها كمنطقة حضارية أثرية في اليونسكو، ضمن مشروع القاهرة الإسلامية الذي بدأ عام 1979". وشاركت زينب: "واحد يقول لي خرابيط وأهدّ الهرم علشان كوبري، والتاني يقول نهد المباني كلها ونبني أبراج، والتالت يقول لي إني بأولول وعايزة عشوائيات!! أنا صحتي على قدي، طبعا الأخ اللي من بلد عربي شقيق، اللي عايز يهد الهرم للتنمية ياخذ جائزة الرد المستفز لليوم". وغرد حساب باسم البديل: "مصر بتتباع وتتهدم آثارها وتاريخها، بالمكشوف عيني عينك وإن كان عاجبك"، واقترح حساب باسم هليوبوليس: "هما يشيلوا النسر من على العلم، ويحطوا بلدوزر أوقع". واستكمل عاصم: "الحكومة بتهدم مقابر المماليك الأثرية اللي بقالها مئات السنين! عشان تعمل طريق أسفلت اسمه محور الفردوس، أي دولة في العالم لو عندها الكام مقبرة اللي اتهدوا دول، كانت عملتهم متاحف مفتوحة!". وكتب أحمد: "من الحاجات اللي فخور بيها إننا في Get360.org، وثّقنا كتير من الآثار في أماكن مختلفة في مصر من ضمنها الجبانة. ومن الحاجات اللي زعلان عليها إننا مش هانلحق نوثق كل حاجة". عمرها 500 عام وتعد جبانات المماليك أحد أبرز المعالم الأثرية الإسلامية في تاريخ مصر والعالم، إذ ظلت المقابر الرئيسية لمدينة القاهرة لما يزيد على 1400 عام، وكانت حينها تسمى "صحراء العباسية" حيث اختارها المماليك في هذه البقعة الحيوية لتكون مضمارًا لسباقات الخيل وبنوا عدة مجموعات معمارية تضم مدارس وأسبلة وخانقاوات ومساجد. وتقديرًا لمكانة آثار القاهرة الإسلامية فقد سُجلت مناطق الفسطاط ومقابر المماليك ومقامات الأولياء ومقابر المؤرخين أمثال الجبرتي والمقريزي ومساجد المقدسي وفخر الدين الزيلعي وابن الحاج الفاسي والمشايخ الصوفية ممن دفنوا في تلك المقابر انتهاءً بملك حفني ناصف، في منظمة اليونسكو كآثار إسلامية عالمية منذ العام 1979م. الغريب أنه في مارس 2020 كشفت عصابة الانقلاب بمصر نيتها في تطوير مقابر المماليك وتحويلها إلى مزار سياحي، وهو ما أشار إليه أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس حسام الدين إسماعيل، الذي أكد أن الواجب الوطني الآن يستدعي إعادة صحراء المماليك إلى بؤرة السياحة العالمية عبر نقطتين هما "التسويق والتدريس". وأوضح أستاذ الآثار الإسلامية أن القيمة الأثرية التي تتمتع بها صحراء المماليك التي تحتوى على طراز عصر المماليك والعثماني وأسرة محمد علي وطراز معماري البحر المتوسط وأحواش البهوات والبشوات بالإضافة إلى مقابر فنانين وخلافه من المشاهير، تتطلب مزيدًا من الاهتمام والتسويق لوضعها على خريطة السياحة العالمية. هدم الآثار الإسلامية أيًا كانت الدوافع، التي يأتي بعضها من باب المكايدة السياسية عقب اعلان الرئيس التركي أردوغان إعادة فتح مسجد آيا صوفيا، فضلًا عن البحث عن المجد الشخصي عبر تنمية عمرانية عصرية، يبدو أنه بات إستراتيجية ومنهجًا لعصابة العسكر خلال السنوات الماضية، وهو ما كان له أسوأ الأثر على مكانة الدولة الأثرية ومن ثم السياحية. مصر تفقد آثارها تشير الإحصاءات إلى أن عدد المباني التراثية في مصر نهاية عام 2018 بلغ نحو 6700 مبنى، وفقًا لرئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري محمد أبو سعدة، فقدت البلاد منها قرابة 75% بحسب تصريحات رئيس الجهاز الأسبق سمير غريب. العديد من التجارب المأساوية شوهت بها الحكومة صفحات تاريخ البلاد الزاخر، أبرزها في السنوات الأخيرة ما حدث في فبراير 2019 حين أقدمت سلطات الدولة على هدم المبنى التاريخي "وكالة العنبريين" الذي يقع داخل شارع المعز في قلب القاهرة، وهو أحد أبرز الشوارع التي تحتوي على آثار إسلامية بمصر والعالم العربي. ويعود هذا المبنى لما قبل 900 عام تقريبًا، حيث بناه الفاطميون ليكون سجنًا تحت اسم "حبس المعونة"، وفي عهد المماليك تحول السجن إلى وكالة لتجارة العنبر على يد السلطان قلاوون عام 1281، وظل حتى يومنا هذا أحد أبرز أماكن بيع العطور في قلب المحروسة، يقصده القاصي والداني، قبل أن تزيله جرافات البيروقراطية بدعوى عدم تسجيله كأثر لدى وزارة الآثار المصرية.