الذين زاروا العاصمة الأمريكيةواشنطن مؤخراً، وجدوا عدداً من الإعلانات البارزة عن مصر «150 سنة برلمان». (1) بدأتْ الحياة النيابية فى مصر قبل مائة وخمسين عاماً.. وبدأتْ الكثير من معالم الدولة الحديثة -بالمعايير العالمية- من المتاحف إلى الجسور، ومن السينما إلى السكة الحديد.. ومن المطابع إلى المجلات والصحف.. ومن البعثات والترجمات إلى الجامعة والدراسات.. تألقت الدولة المصرية المعاصرة.. فى كل شىء تقريباً. (2) ما الذى جرى فى مصر؟ كيف تراجعتْ بلادنا.. إلى حدّ فقدان القدرة على الإبهار بعد أن أبهرتْ كلّ العالم قديماً.. وأبهرت نصفَ العالم.. حديثاً؟! (3) إن تداعى المرافق و«البنية الأساسية» فى الحقبة الأخيرة.. كان موازياً.. أو بالأحرى كان تالياً لهبوط المرافق و«البنية السياسية» فى مصر. كان هبوط السياسة هو السبب فى هبوط الحداثة، وكان تدهور مستوى النخبة السياسية وراء تدهور المؤسسات الحداثية. وبعد أن كان الشكل الأوروبى هو الغالب على العاصمتيْن.. القاهرة والإسكندرية.. وكان الشكل الفرعونى هو الغالب على مدن الدلتا والصعيد.. وكان الشكل الإسلامى حاضراً فى توافق وتناغم مع الأصالة الفرعونية والمعاصرة الأوروبية.. أصبح الشكل ال«عالم ثالثى» هو الشكل الغالب لبلادنا. لم يعد زحام مصر يُقارن بزحام اليابان التى سبق أن تعلّمت الكثير من الحداثة المصرية.. بل صار زحامها وتدهور مستوى الحياة فيها.. يُقارَن بالدول النامية ومجتمعات ما قبل الحداثة. (4) لقد تأسست «مطبعة بولاق» عام 1821.. أى قبل قرنين من الزمان.. ويكفى أن يتأمل المرء.. ما صارتْ إليه بولاق بعد مائتى عام.. ليرى ذلك التحول المذهل.. من المطبعة إلى الفقر.. ومن الحضارة إلى المعاناة.. أو من الحداثة إلى اللاحداثة! كانت بولاق الرائعة.. أكثر من ساحرة.. طباعةً وطبيعة، ولم يكن رونقها أقل من رونق المناطق الأكثر جمالاً فى العواصم الأوروبية.. لكنها مضتْ إلى المجهول. (5) كم هو مناسبٌ أن نطرح الآن مبادرة «بولاق 2021».. وأن تتشكل من الآن أمانة عامة لهذه المبادرة.. التى سيكون عليها وضع مخطط حضارى لاستعادة الحداثة فى بولاق. أمامنا خمس سنوات لنحتفل بمرور (200) عام على تأسيس مطبعة بولاق.. وإنه لمن الصعب استعادة «الحداثة البولاقيّة» التى كان رمزها: مطبعةً وحديقةً وبحيرةً.. ومفكرين ومؤلفين ومترجمين. لكن التّحسين الحضارى.. هو جزءٌ من استعادة الحضارة.. ولقد شهدتْ مدنٌ كثيرة حول العالم.. موجات الصعود والهبوط، وليس من الحكمة أن يدفعنا الماضى الرائع والحاضر البائس إلى الإحباط.. بل علينا أن نتعلّم من الذين لم يكونوا.. ثم كانوا.. وأولئك الذين لم يعرفوا أبجديّات الحياة.. ثم انطلقوا إلى مساحات عليا.. لم تكن فى خيالهم ولا خيال آبائهم الأولين. (6) لقد تراجعت مصر من «الحداثة» إلى «ما قبل الحداثة».. ومضى الزمن بالكثير من مكوناتها إلى ما قبل عصر محمد على.. إن الخروج من حقبة «ما قبل الحداثة» إلى «الحداثة» من جديد.. يمكن أن يكون عنوان المشروع الحضارى المصرى. اليأس خيانة والأمل وطن. حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر