قرأت وشاهدت الكثير من التعليقات على فضيحة تكريم جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل خلال حرب أكتوبر، بوصفها واحدة من 70 شخصية نسائية عربية ودولية غيّرن مجتمعاتهن، وتمثل التكريم فى وضع صورهن على جدران أحدث متحف بالقرية الفرعونية حمل اسم «نساء رائدات». انصبت معظم التحليلات على استهجان تكريم واحدة من الرعيل الأول للحركة الصهيونية، نشأت فى روسيا ثم هاجرت إلى الولاياتالمتحدة، ومنها إلى فلسطين، ونشطت فى إطار العصابات الصهيونية وكانت شاهداً على تأسيس دولة إسرائيل. لم تفلح جهود زوجها فى إثنائها عن الهجرة إلى فلسطين، بل وصفته بأنه «كان عاطفياً وأقل تأكداً من الصهيونية منى، فكان يحلم بعالم يسوده السلام»، ومثل هذا الاختلاف بين شخصيتى الزوجين «جولدا وموريس» كان من بين أسباب انفصالهما لاحقاً. مثّلت حرب أكتوبر، التى قدمت أول انتصار مصرى - عربى على الصلف الإسرائيلى، كابوساً مزعجاً لرئيسة الوزراء الإسرائيلية وعبّرت عن صدمتها فى مذكراتها الشخصية، قائلة إنه ليس أشق على نفسها من الكتابة عن تلك الحرب. هذا التاريخ اعتبره المشرفون على متحف «نساء رائدات» فيه ما يبرر الاحتفال بجولدا مائير وتكريمها، وأنا هنا أرفض التعامل مع وضع صورتها داخل المتحف بوصفها خطأ غير مقصود، أولاً لأن التعريف بشخصها الذى جاء أسفل صورتها كان يمثل فضيحة أكبر من فضيحة الصورة نفسها، إذ اقتبست السيرة الذاتية المختصرة لهذه السيدة بعضاً مما سمته «من تصريحاتها المشهورة». وفى أحد هذه التصريحات ورد ما نصه بعد واقعة حريق المسجد الأقصى «لم أنم طوال الليل، كنت خائفة من أن يدخلو العرب إسرائيل أفواجاً من كل مكان، لكن عندما أشرقت شمس اليوم التالى علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أى شىء نريده»!!. تخيل معى عزيزى القارئ أن تواضع رد الفعل العربى على حريق الأقصى أصبح إضافة تحسب لجولدا مائير، وأن السخرية من رد الفعل هذا أصبح من موجبات تكريمها!، فإذا كان تعليق صورتها وقع على سبيل السهو (لا أدرى كيف؟)، فهل كان النقل من سيرتها الذاتية الموجودة على «ويكيبيديا»، وبنفس الخطأ الموجود فى الموسوعة «كنت خائفة من أن يدخلو العرب» أيضاً كان على سبيل السهو والخطأ؟. ثانياً لقد شاهدت أحد مسئولى المتحف فى حلقة «القاهرة اليوم» على قناة «أوربيت» فى 14 يونيو الحالى، ورأيته وهو يعرب عن تفهمه غضب المصريين من تعليق الصورة، ثم يضيف ما معناه «لكنه التاريخ الذى لا يستطيع أحد تغييره!»، فعن أى تاريخ بالضبط يتحدث صاحبنا؟ لم ألتقط مع الأسف اسم المتحدث، وحاولت تنزيل حديث هذا المسئول من على «يوتيوب»، لكن لأنه كان ضمن فقرة إعلانية لم أتوصل إليه. إن فى مواجهة تاريخ جولدا مائير هناك تاريخ جمال عبدالناصر الذى خصصت له القرية الفرعونية عن جدارة متحفاً خاصاً به، وفى هذا المتحف بعض من معالم المرحلة من الأربعينات، وحتى عام 1970، ومن مقتنياته قرار تأميم قناة السويس، وجولدا مائير حينها وزيرة للخارجية فى الحكومة الإسرائيلية التى أعلنت الحرب على مصر جنباً إلى جنب مع الحكومتين البريطانية والفرنسية. وأنا هنا أسأل، لو أن ذلك المواطن المصرى الذى حضر افتتاح متحف «نساء رائدات» لم يستفسر عن سر وجود صورة جولدا مائير إلى جانب قيادات نسائية مصرية وعربية، وبالتالى لم ترفع الصورة، كيف كان يستقيم أن يتنقل الزائر بين متحف يحتفى بقرار التأميم ومتحف يكرّم قرار العدوان الثلاثى؟ إن رسائل التطبيع التى تمرّر بأشكال مختلفة مرفوضة رفضاً باتاً، ومن المهم أن يصل هذا المعنى إلى المسئولين الإسرائيليين حتى لا نجدنا مطالبين بالدفاع عن أنفسنا فى مواجهة الحملة الشرسة التى شنّها الإعلام الإسرائيلى على رفع صورة جولدا مائير من على جدار المتحف بعد اعتراض الجمهور، فما يخص ترتيبات الحدود لا يسرى على علاقات الشعوب. حتى الآن انصب المقال على النقد السياسى لفضيحة صورة المتحف، بحسبان صاحبتها شريكة فى العدوان على مصر فى 1956 وإدارة الحرب ضدها وضد كل من سوريا والأردن فى 1967، لكن ثمة إضافة لا بد منها، هى أن تكريم جولدا مائير جاء ضمن الاحتفاء بالنساء الرائدات، وهنا لا يقل سجل هذه الشخصية سوءاً كامرأة عن سجلها كسياسية عتيدة، وذلك بسبب التماهى الشديد بين الصفتين. فمن أقوال جولدا مائير الشهيرة جداً، التى لم توضع أسفل صورتها فى المتحف «كل صباح أتمنى أن أصحو ولا أجد طفلاً فلسطينياً واحداً على قيد الحياة»، فكيف تقيم المرأة (أى امرأة) هذا الحكم المطلق الذى تنكر صاحبته حق الحياة على كل طفل فلسطينى؟ كيف تنظر أى امرأة إلى من يريد أن يسلب كل الأمهات فلذات أكبادهن لأنهم فلسطينيون؟، كيف يقيم المدافعون عن حقوق المرأة وكل المنظمات النسائية هذا التصريح بالقتل لمن يمثل الإنجاب بالنسبة لهم أمضى أسلحة المقاومة؟ عار على النساء أن تكرم باسمهن جولدا مائير، وكم كان يود المرء فى اللحظة التى رفعت فيها صورة جولدا مائير من فوق الجدار أن توضع بدلاً منها صورة امرأة تمثلنى وتمثل كثيرات غيرى: صورة «دلال المغربى» صاحبة العملية البطولية الأجرأ والأنجح فى تاريخ العمليات الاستشهادية النسائية، «دلال» النازحة من الأرض إلى مخيمات اللاجئين، ثم العائدة إلى الأرض بحزام ناسف وعزيمة لا تلين.