كلما سافرت بعيداً فى النصف الآخر من العالم أدركت أننا نعيش فى عالم لا يراه الآخرون، نتبادل فيه أدوار الجناة والضحايا، لكن من المؤكد أن أكبر الضحايا هى الحقيقة، تلك الغريبة الشريدة التى يخفيها نخاسو القرن ويغيرون ملامحها ويظهرون من مفاتنها وعوراتها المطلوب حسب احتياج (الزبون)، وقد تحولوا من قطاع طرق إلى وكالات أنباء بكل اللغات، وقد هجروا سوق عكاظ واستوطنوا محطات فضائية ووسائط إلكترونية وجرائد فقدت هويتها بعد أن سبوا حتى صاحبة الجلالة ولونوا بلاطها بكل الألوان من الصفراء إلى الحمراء إلى السوداء. وكانت تلك المظاهرة أمام البيت الأبيض إحدى عروضهم وقد تجلى فيها حسن الصنعة ومهارة البيع، تعالوا نسمع ونرى. - تسقط أكذوبة أن المسلم أخو المسيحى - أنقذوا أقباط مصر - تعيش أمريكا راعية حقوق الإنسان ورغم أن عدد المتظاهرين لم يتعد بضع عشرات من أقباط المهجر فإن الاستعدادات الضخمة التى سخرت لنقل المظاهرة والتسليط الإعلامى من وكالات الأنباء فرضها على وجدان المتابع وكأنها قضية رأى عام، خاصة أنه لم يكن هنالك صوت آخر يرد أو يفند ما يثار عن ظلم واضطهاد اُختص به الأقباط الذين يمنعون من الخروج حيث يذبحون فى الشوارع ويغتصبون فى المنازل، وتجمع الجمهور يتفرجون على وطن عارٍ حتى من ورقة توت، وطن هان على أبنائه فعرضوه فى مزاد (اللى ما يشترى يتفرج) ووسط عيون ملونة باردة تتفرج فى صمت كانت هناك عيون سمراء مملوءة بالكلام، وهبتها شمس الشرق منحة من وهجها، امتدت لبشرة تحمل ملامح مصرية وغطاء يستر شعرها ويفضح هويتها، التقت بعينيه لم تخطئهما وكيف لها، شعر بإحساس غريب لا يعرف له تفسيراً، انتبه على وخزة خفيفة من زميله تستحثه على ترديد الهتافات خلف كبير الشمامسة، ورفع يده باللافتة (تسقط أكذوبة أن المسلم أخو المسيحى)، يدير وجهه إلى الجانب الآخر، لا يستطيع، يجذبه مجال مغناطيسى أقوى من كل قناعاته المكتسبة، من كل ما رسخوه فى وجدانه منذ الرحيل من أرض الوطن، يبحث فى عينيها عن شىء منه يفتقده، حنين يناديه وقد تحولت الأيام إلى غيوم سحرية باهتة لأحلام الطفولة والصبا، اللبس الجديد، العيدية، المراجيح، قداس العيد، الزينة فى الشارع، الطيارات الورق وخناقات البلى مع الرفاق، ووسط صخب المظاهرة القاسية تحاول أن تناديه يخونها صوتها، تتحرك تجاهه تمنعها ابنتها الشابة فى مثل عمره - مش هو يا ماما ده بس شبهه - لأ هو أنا عارفاه حد يتوه عن ضناه، ده أخوكى مينا يا فاطمة تتذكر فاطمة أخاها الذى فرقوا بينهما فجأة ورحل ولم تره أبداً، فقد كان ابن جارتهم (أبلة تريز) الذى تولت أمها إرضاعه ورعايته لسنوات بعد مرض والدته حتى توفيت ولكن بعدها رحل مع باقى العائلة إلى أمريكا، وقد بكت كثيراً حين علمت أن مينا ليس أخاها وأنه سيرحل بعيداً، ومنذ قدومها إلى أمريكا منذ سنوات مع زوجها وأمها توصيها بالبحث عنه، حتى أتت لزيارتها، تحركت الأم الملهوفة بلا إرادة تجاه ابنها - يا أمى استنى، احنا مكناش عايزين نقولك، مينا مات، ده مش مينا، ليذوب صوتها مع الضجيج ووسط ذهول الجميع تقتحم الصف ذات الملامح المصرية السمراء، متحدية الحركة المنظمة لأقدام عنيدة تدفعها، تكاد تسقط يمد لها يداً، تقف ويقف كل شىء آخر، تتراخى يداه لتفلت اللافتة من بين أصابعه، وبعيون تفيض بالدمع تفتح له ذراعاً، تتحرك قدما يوسف دون إرادة منه، تدوس اللافتة لتغوص فى الجليد، ليجد نفسه فى حضن يشعر بأنه يعرفه، يدفعه شىء لا يفهمه، لكنه يشعر به، ووسط دموع الجميع تصيح: - لا يا بنى لا يا بنى، أنا أمك، أنا أمك تخرج فاطمة قصاصة جريدة كانت تخفيها عن أمها لخبر وفاة شاب مصرى الأصل فى حادثة سيارة بأمريكا، تتأملها قليلاً، ثم تنظر إلى أمها وذلك الملقى فى حضنها، ترمى بها فى سلة المهملات القريبة، فلا تهم الأسماء كثيراً، يتفرق الموكب، يذهب كل لحياته، ولا يبقى سوى آثار أقدام كثيرة، ولافتة اختفت وتلاشت منها بعض الكلمات وقد نظفتها مياه الله لتستطيع أن تقرأ بوضوح مما تبقى. (.. .. .. أن المسلم أخو المسيحى)