كان ضمن الموجودين فى المحاضرة، أحد كبار الباحثين فى معمل عبداللطيف جميل الدولى الكائن فى جامعة إم أى تى، والذى قام فى نوفمبر الماضى بتنظيم ورشة عمل حول أزمة سد النهضة بحضور عدد كبير من الخبراء الدوليين فى السدود وإدارة المياه والعلوم السياسية، وفى شهر مارس من هذا العام، جاء هذا الباحث مع آخرين إلى مصر لمناقشة ملاحظات وزارة الموارد المائية والرى على توصيات ورشة العمل الأمريكية، وفى تعليقه على المحاضرة، ذكر الباحث الأمريكى أنّه لاحظ أنّ مهندسى وزارة الرى المصرية متمسكون بعدم المساس بحصة مصر المائية، ومتشددون حول ضرورة تقليل سعة السد كحل أصيل للأزمة، وأنّ هذا الموقف يبدو متناقضاً فى رأيه مع اتفاقية إعلان المبادئ التى وقعها السادة الرؤساء والتى لم تنص على التمسك بالحصة المائية المصرية، ولم تذكر أى مطالب بخصوص حجم سد النهضة، بل أكدت حق الدول الثلاث فى الاستخدام العادل والمنصف للمياه، ثمّ استطرد الباحث مستفسراً عن أسباب هذا التباين فى الرؤى ما بين الفنيين والسياسيين فى مصر. وكانت إجابتى بأنّ جميع المسئولين المصريين لا يوافقون بل لا يملكون حق الموافقة على المساس بحصة مصر المائية، وأنّ أغلبية الخبراء المصريين يرون أنّ الحل الأمثل هو تقليل سعة السد وبما يقلل الضرر على مصر وفى الوقت نفسه يعظم الجدوى الاقتصادية للإثيوبيين، وفى اعتقادى الشخصى أنّ أعضاء الفريق المصرى المشارك فى المباحثات الثلاثية سيكون لهم التوجه نفسه، أمّا إعلان المبادئ، فإننى أرى أن معظم أهدافه سياسية وليست فنية لتحسين العلاقات الثنائية وبناء مساحة من الثقة وكسر حاجز الشك بين الدولتين، مما قد يساعد فى سرعة إجراء الدراسات المقترحة للسد وقبول نتائجها. وأرى أنّ إعلان المبادئ لم يشمل أى تنازلات مصرية، ولكنه تجنب التطرق إلى المشاكل الخلافية، وهذا السبب الرئيسى لملاحظاتى عليه لأنّ تجنب هذه المشاكل قد صدرها إلى المسار الفنى مما قد يؤدى إلى عدم توافق الدول الثلاث حول إجراءات ونتائج الدراسات، ولذلك فإنّه ليس هناك تباين حقيقى بين الجانبين الفنى والسياسى، بل كل منهما يقوم بدوره فى مهمة صعبة وبهدف تقليل أضرار سد النهضة على مصر. وكان هناك سؤال آخر حول مدى قبول مصر لأى نقص فى إيراد النهر نتيجة لبناء سد النهضة، وهل تستطيع مصر التغلب على النقص المائى من خلال التحلية والترشيد. وكانت الإجابة بأنّ رؤيتى الشخصية أنّ مصر دوماً ما كانت ملتزمة بقواعد ومبادئ القانون الدولى والتى تعطى لإثيوبيا الحق فى استغلال النهر بدون التسبب فى أضرار مؤثرة بدولتى المصب، وإذا كان النقص فى الإيراد فى حدود هذا الضرر فلا مناص من تقبله. والمشكلة الحقيقية فى رأيى تكمن فى صعوبة توافق الدول الثلاث حول قيمة هذا النقص المائى الذى يقصده مبدأ عدم الإضرار فى القانون الدولى. ويجب ألّا نتغافل أنّ مصر ليست هى الدولة الوحيدة المعنية بنقص إيراد النهر، فإنّه تبعاً لاتفاقية 1959 سيتم تقاسم أى نقص فى إيراد النهر بالتساوى ما بين مصر والسودان، وبالتالى فإن الضرر المؤثر يجب قياسه فى هذا الإطار والمضمون، وبالنسبة لقدرة مصر على إدارة مشكلة نقص إيراد النهر فإننى أراها محدودة لأسباب عدة، أهمها أنّ كفاءة منظومتنا المائية تصل إلى 74% وهى عالية بكافة المعايير، ولذلك فإنّ محاولة زيادة هذه الكفاءة عن طريق الترشيد ستكون عالية التكاليف وستستغرق وقتاً طويلاً لا يتناسب مع الإطار الزمنى لمشاكل نقص المياه الناتجة عن سد النهضة. وهذه الكفاءة العالية للمنظومة المائية المصرية ليست نتاجاً لسياسات ترشيد، ولكنها تعود لممارسات إعادة الاستخدام المكثف لعوادم وفواقد المياه. وقد يرى البعض أنّ كفاءة الرى السطحى السائد فى الدلتا والوادى متدنية وتصل إلى 50% أو أقل، وبالتالى يمكن رفع الكفاءة وتوفير المياه المهدرة. وبلا شك أنّ الترشيد سيرفع كفاءة الرى ويقلل من الفواقد، ولكن هذه الفواقد يتم استقطاب معظمها حالياً عن طريق إعادة استخدام المياه وضخ المياه الجوفية. بمعنى آخر أنّ الترشيد سيوفر مياهاً على حساب كميات إعادة الاستخدام ومعدلات ضخ المياه الجوفية، وبالتالى فإنّ مقدار التحسن فى الكفاءة الكلية سيكون محدوداً. وبالنسبة لتحلية المياه فإنّها تتطلب استثمارات مالية كبيرة وإنتاجيتها محدودة، وتتطلب كميات كبيرة من الطاقة غير متوفرة لمصر، ونتيجة للتكلفة العالية للمياه المحلاة فإنّ استخداماتها سوف تنحصر فى أغراض الشرب والصناعة. وتساؤل آخر حول أهمية التحرك الإقليمى والدولى للمساعدة فى البناء على نتائج إعلان المبادئ وتحويله إلى آلية حقيقية لتسوية المشاكل المائية بين مصر وإثيوبيا. وكانت إجابتى أنّ أى دعم دولى أو إقليمى غير منحاز لطرف أو لآخر سيكون فى رأيى مرحباً به. وإننى أعتقد أنّ الحل المتوازن والقابل للاستدامة لن يتأتى إلّا من خلال تعاون إقليمى حقيقى، وهذا يتطلب تقبل جميع الأطراف للأفكار البناءة التى تهدف إلى استقرار وتنمية المنطقة. والدعم الدولى الذى أراه هو الاستثمار والدعم المالى فى مشاريع استقطاب فواقد النهر وفى تنمية المنطقة، والعمل على إقناع دول المنطقة بهذه المشاريع. وكانت هناك تعليقات مهمة من بعض المشاركين بأهمية تكرار مثل هذه المحاضرات والتواصل وعرض الأفكار للمجتمع الدولى، واقترح البعض عقد مائدة مستديرة أو ورشة عمل يحضرها ثلاثة أو أربعة خبراء غير حكوميين من كل دولة وبمشاركة عدد من الخبراء الدوليين لطرح مثل هذه الأفكار ومناقشتها من جميع الأطراف مما قد يساعد على التوصل إلى سيناريوهات يتم عرضها على حكومات الدول الثلاث، وختاماً أحب أن أشير إلى أنّ مصر تحتاج بشدة إلى زيادة وجودها الدولى والإقليمى من خلال علمائها وباحثيها وذلك بالتنسيق والتعاون مع الحكومة، وتحتاج إلى تنشيط نشر الأبحاث الدولية عن مشاكلنا الإقليمية والدولية، والعمل على ترجمة المقالات المختصة لكبار الكتاب ونشرها عن طريق هيئة الاستعلامات بل وتشجيع النشر المباشر فى وسائل الإعلام العالمية. المسئولية تقع على عاتق الجميع من أجهزة الدولة والجامعات ومراكز البحوث والعلماء وكبار الكتاب والصحفيين المصريين.