أخشى أن أكون صادماً لو قلت اليوم إن المتابعة الجادة والدقيقة لعملية التفاوض التى تجرى الآن بين مصر والسودان وإثيوبيا أملاً فى تسوية عادلة لمشكلة سد النهضة، تطمئن مصر على حقوقها التاريخية فى مياه النيل، تصطدم بعناد إثيوبى غريب، لا يفتح ثغرة أمل فى جدار الرفض الإثيوبى المصمت الذى يهدد بتصعيد التوتر وتفاقم النزاع بين البلدين! ومع الأسف لم تفلح حتى الآن جهود السودان الذى يفصل مصالحه المائية عن مصالح مصر ويعتبر نفسه طرفاً وسيطاً فى تليين الموقف الإثيوبى، الذى لا يزال يرفض إصدار إعلان مبادئ يطمئن مصر على استمرار حصولها على الحد الأدنى من حصتها المائية (55 مليار متر مكعب إضافة إلى زيادة سنوية معقولة لمواجهة الزيادة السكانية)، ولا يزال يرفض تقديم عدد من الدراسات المهمة المتعلقة بتصميمات السد الأصلى، والرسوم الهندسية المتعلقة بالسد المساعد، لأن سد النهضة هو فى الحقيقة سدان، سد أصلى يصل بطاقة التخزين إلى حدود 14٫5 مليار متر مكعب، وآخر مساعد يرفع السعة التخزينية لسد النهضة إلى حدود 74 ملياراً، كما ترفض إثيوبيا تقديم الدراسات المتعلقة بضمانات سلامة جسد السد، رغم التحذيرات الشديدة التى يطلقها عدد من الخبراء الدوليين، يتنبأون بانهيار السد فى فترة وجيزة، ووقوع كارثة ضخمة تهدد بغرق مدينة الخرطوم تحت 20 متراً من المياه، وانهيار معظم سدود السودان، وربما يصل التأثير إلى السد العالى فى مصر، فضلاً عن مخاطر هجرة عشرات الملايين المشردين شمالاً من الجنوب الغارق تحت مياه السد المنهار! يؤكد ذلك تقرير اللجنة الدولية للخبراء التى قبلت إثيوبيا تشكيلها على مضض فى مايو 2012، وضمت عشرة خبراء، اثنين من كل من الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، إضافة إلى أربعة خبراء دوليين، قدمت بعد عام من عملها تقريراً مهما، خلاصته الأخيرة أن الدراسات والتصميمات الخاصة بالمشروع التى عرضتها إثيوبيا بصفة عامة على اللجنة الدولية تعتبر دراسات أولية لا تصلح لبدء العمل فى تنفيذ المشروع، وأن هناك قصوراً شديداً فى الدراسات والتصميمات الخاصة بالسد المساعد الذى يرفع طاقة التخزين إلى 74 مليار متر مكعب من المياه، فضلاً عن انعدام الدراسات المتعلقة بتقييم تأثيرات سد النهضة البيئية والاجتماعية على دولتى المصب، مصر والسودان، كما تجرى القواعد الدولية فى كل المشروعات الكبرى التى تقع على أنهار دولية، تتعلق بها حياة أمم وشعوب ترتبط مصالحها بهذه الأنهار، ولا يزال سد النهضة الذى أعلنت إثيوبيا عنه عام 2011، وأسندت عملية إنشائه إلى شركة إيطالية فى مراحل الإنشاء الأولى، يعانى نقصاً شديداً فى الدراسات الأساسية، ويفتقد مصادر التمويل الدولية، رغم إعلان أديس أبابا أن تكلفة السد قد تصل إلى 5 مليارات دولار يتم تمويلها بالكامل محلياً، إلا أن تقديرات الخبراء تؤكد أن التكلفة سوف ترتفع إلى حدود تقترب من 10 مليارات دولار بما يفوق قدرة الخزانة الإثيوبية على تمويله. ورغم اجتماع وزراء الرى الثلاثة، مصر وإثيوبيا والسودان، مرتين فى الخرطوم بعد طول تسويف، للاتفاق على آلية واضحة لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدوليين، لا تزال إثيوبيا ترفض الالتزام المسبق بتنفيذ توصيات اللجنة، ولا تزال تتردد فى إمكانية الاستعانة بخبراء دوليين ضمن الآلية الجديدة المقترحة لتنفيذ هذه التوصيات، ولا تزال ترفض وجود إطار زمنى لعمل اللجنة الجديدة لا يزيد على عام، وأظن أن الاجتماع الثالث لوزراء الرى الثلاثة الذى انعقد فى الخرطوم قبل عدة أيام سوف يكون حاسماً، إذا استمر إصرار الإثيوبيين على التسويف وتضييع الوقت وعدم الشفافية فى تقديم المعلومات، ورفض أى التزام مسبق يتعلق بضمانات الحد الأدنى لمصالح مصر المائية! والحق فإن المصريين لم يألوا جهداً خلال هذه المباحثات فى إظهار حسن نواياهم والرغبة فى الوصول إلى تسوية عادلة، تتجسد فى صفقة متكاملة بين إثيوبيا ومصر والسودان، شمالاً وجنوباً، تفتح الأبواب على مصاريعها لتكامل تنموى اقتصادى بين الدول الأربع، لا يؤثر على التصرفات المائية الواردة لدولتى المصب، مصر والسودان، ويضمن التشغيل الاقتصادى والمشترك لكافة السدود على النهر، ابتداء من سد النهضة إلى السد العالى، كما يضمن لإثيوبيا حقها المشروع فى إقامة سد النهضة لتوليد الكهرباء، وحقها فى الانتفاع بمياه نهر النيل دون الإضرار بمصالح مصر المائية، والالتزام بما أعلنته من أن الهدف الرئيسى لسد النهضة هو توليد الكهرباء، والسماح لمصر بالمشاركة الكاملة فى وضع قواعد ملء السد وتشغيله وإدارته بما يحول دون الإضرار بمصالح مصر، أو استخدام السد كأداة ضغط على مصر فى أوقات الجفاف، إضافة إلى التزام إثيوبيا بالعمل المشترك مع مصر ودولتى «السودان»، فى إنشاء مشروعات مائية تستقطب الفوائد المهولة من مياه النيل، خاصة مع وجود ثلاثة مشروعات ضخمة فى بحر الغزال وجونجلى فى جنوب السودان، يمكن أن تزيد مياه نهر النيل بما يقرب من 20 مليار متر مكعب من المياه. لأن المشكلة من وجهة نظر مصرية لا تتعلق بنقص موارد دول حوض النيل المائية الذى يتساقط عليه ما يصل إلى حدود 1700 مليار متر مكعب من الأمطار سنوياً يضيع معظمها فى البحر، إضافة إلى 70 ألف كيلومتر مربع من المستنقعات تزيد من مصاعب الحياة وتقلل جودتها، لكنها تتعلق بتنظيم جهود دول الحوض للاستفادة من موارد مائية ضخمة متاحة بالفعل لا تتم الاستفادة منها.. وهذا ما تطالب به مصر وتتفهمه منذ أمد بعيد.. لم تعترض مصر يوماً ما على مشروع تنموى فى أى من دول الحوض، ولم تقف حائلاً دون مصالح أى من هذه الدول، وعلى امتداد عقود طويلة لم تتوقف مبادراتها من أجل المساعدة فى تنمية دول الحوض وفقاً لقدراتها وإمكاناتها، ولأن هذا هو خيارها المفضل، تؤكد مصر فى كل اجتماع لوزراء الرى الثلاثة حرصها على ضرورة استمرار الحوار الاستراتيجى مع إثيوبيا وتعزيز علاقات التعاون مع شمال وجنوب السودان على كافة الأصعدة، بهدف تحقيق تكامل تنموى حقيقى بين الدول الأربع، خاصة أن التعاون المائى مع جنوب السودان لتقليل حجم الفواقد المائية فى مستنقعات جونجلى وبحر الغزال يمكن أن يكون مدخلاً لحل صحيح يطمئن مصر على حصتها المائية، ويعزز التعاون الإقليمى بين الدول الأربع بما يمكنها من تحقيق تكامل اقتصادى وسياسى يعززه تمثيل برلمانى مشترك. لكن ماذا يكون موقف مصر التى تعتمد بنسبة 97% على مياه النهر فى حياتها، وتعانى من وضع مائى حرج، بسبب ثبات حصتها المائية وضعف سقوط الأمطار على أراضيها وشح مياهها الجوفية، وتضطر إلى إعادة استخدام مياه الصرف الزراعى والصحى لمواجهة عجز احتياجاتها المائية، ماذا تفعل مصر إن أصرت إثيوبيا على عنادها وسدت كل الطرق إلى تعاون حقيقى يقوم على احترام المصالح المشتركة دون ضرر أو ضرار، وأصرت على خطتها الراهنة فى بناء سد النهضة بمواصفاته المعلنة فى غضون خمسة أعوام مع بدء توليد الكهرباء، دون حساب للأضرار الجسيمة التى يمكن أن تقع على مصر بسبب تحكم إثيوبيا الكامل فى إيراد النيل بعد بناء سد النهضة، والنقص الفادح فى حصة مصر المائية خلال فترة ملء خزان النهضة، الذى يمكن أن يصل إلى حدود 103 مليارات متر مكعب على امتداد 6 سنوات، إضافة إلى هبوط منسوب السد العالى إلى الحد الأدنى، الذى سوف يؤدى بالضرورة إلى نقص الكهرباء التى تتولد منه بنسبة تتجاوز الثلث، بما يحقق خسارة فادحة فى الدخل القومى المصرى تتجاوز قيمتها 400 مليار جنيه خلال فترة امتلاء خزان سد النهضة، فى الوقت التى توجد فيه بدائل فنية مقترحة يمكن أن تقلل كثيراً من حجم هذه الخسائر الفادحة، إذا قبلت إثيوبيا خفض التخزين فى بحيرة سد النهضة إلى حدود 43 مليار متر مكعب بدلاً من 74 ملياراً، ووافقت على إطالة الأمد الزمنى لعملية ملء الخزان إلى حدود تصل إلى 10 سنوات.. ومع الأسف ترفض إثيوبيا الاقتراحات المصرية، وتقامر على إمكانية فصل مصالح السودان المائية عن مصالح مصر، على أساس أن سد النهضة سوف ينظم تصرفات النيل الأزرق، بما يساعد السودان على زيادة حجم استثماراته الزراعية وتوسيع رقعته بحوالى 7 ملايين فدان جديدة. وقد لا يكون من الحكمة الآن أن نضع العربة أمام الحصان، ونتعجل ردود الفعل المصرية التى تنطوى على بدائل عديدة، لعل أولها الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بحثاً عن العدل، وآخرها، كما ورد فى حديث وزير الرى المصرى إلى وزير الرى السودانى أخيراً، أن يزحف 90 مليون مصرى يتهددهم العطش والجوع إلى الجنوب، يدافعون عن حضارة عريقة هى أولى حضارات الدنيا، يتهددها خطر الاندثار بسبب تعسف الموقف الإثيوبى الذى يتحكم فى 86% من موارد مصر المائية، ويصر على خنق الحياة فى مصر، ويمتنع عن تقديم أى ضمان بالحد الأدنى لحقوقها المائية، ويرفض كل صور التعاون التى تحفظ لكل الأطراف حقوقها، وترفع إيرادات نهر النيل بما يجعل كل الأطراف رابحة، ويوجه اللوم إلى المصريين وحدهم الذين صنعوا على شاطئ النيل على امتداد سبعة آلاف عام واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية، دون أن يلوموا أنفسهم على الحال التى وصلت إليها بلادهم، رغم مواردها المائية الضخمة من أحواض الأنهار الأخرى وأمطار يبلغ حجمها السنوى 1660 متراً مكعباً ومستنقعات تتسع مساحتها إلى حدود 70 ألف متر مربع، فهل تراجع إثيوبيا مواقفها قبل أن يفوت الوقت ويقع صدام لا مبرر له، لا أحد يريده أو يتحمس له، خاصة أن الحلول ممكنة ومتاحة، تتطلب فقط الجهد المشترك وحسن النوايا؟!