بعد انتهائى من إلقاء محاضرة سد النهضة، كانت هناك تساؤلات عديدة اخترت منها فى هذا المقال ثلاثة أسئلة للعرض والتحليل بهدف إطلاع القارئ والمهتمين بملف حوض النيل على مدى الدراية والاهتمام الأمريكى بهذا الملف الحيوى المهم، ولو حتى على المستوى الأكاديمى. وأول هذه التساؤلات كان يدور عن الأسباب التى دعتنى إلى طرح مبادرة خريطة طريق جديدة، بينما لم تمر إلّا أيام قليلة على إعلان المبادئ الذى وقعه السادة الرؤساء، والذى ترى فيه الدول الثلاث أنّ استكمال الدراسات والمباحثات الفنية هو السبيل الوحيد لحل الخلافات القائمة حول سد النهضة. وكانت إجابتى بأنّ الدراسات الفنية لم تبدأ حتى الآن ولم يتم حتى التعاقد مع مكتب استشارى لإعدادها، وذلك رغم أنّ بناء السد مستمر وتم الانتهاء من 40% من البنيان. وأضفت بأننى أتوقع ألا يتم التعاقد مع المكتب الاستشارى قبل شهر أغسطس المقبل، وأنّ الدراسات سوف تستغرق وقتاً أطول كثيراً عمّا جاء فى إعلان المبادئ، بل قد ينتهى بناء السد والبدء فى التخزين قبل الوصول إلى توافق حول عدد سنوات التخزين وقواعد تشغيل السد. ويعود هذا التأخير فى الدراسات إلى أسباب جوهرية منها أنّ الجانب المصرى يرى أنّ الشروط المرجعية للدراسات الهيدرولوجية تشمل تحديد السعة الأمثل لسد النهضة، أو على الأقل تقييم ومقارنة عدة سيناريوهات لسعة سد النهضة، ولكن إثيوبيا ترى عكس ذلك ولا تقبل بدراسة سعة أو تقييم أبعاد سد النهضة. وثانى هذه الأسباب أنّ نتائج الدراسة الهيدرولوجية ستكون فى الأغلب احتمالية، أى على شكل سيناريوهات مختلفة تعتمد على فرضيات واحتمالات لحجم فيضان النهر السنوى، وبالتالى ستكون نتائج غير قاطعة وقد تؤدى إلى تباين فى التفسير والتأويل ما بين الدول الثلاث، وكل طرف ينحاز إلى السيناريو الذى يحقق له أهدافه من التفاوض. والسبب الرئيسى والأكثر تعقيداً الذى قد يسبب تأخير الدراسات هو أنّه ليس هناك اتفاق بين الدول الثلاث على تفسير بند عدم الإضرار الوارد فى إعلان مبادئ سد النهضة، حيث لم يتم الاتفاق على تعريف الضرر ذى الشأن الذى ورد فى هذا البند، وليس هناك اتفاق حول الاستخدامات العادلة والمنصفة للمياه للدول الثلاث. ولذلك سيكون هناك اختلاف كبير ما بين الدول الثلاث على تفسير نتائج دراسات تداعيات سد النهضة على دولتى المصب، فأى نقص فى إيراد النهر لمصر سوف تعتبره إثيوبيا حقاً لها بينما سوف تعتبره مصر ضرراً وقع بها. من الواضح أنّ هناك صعوبة بالغة لتوصل الدول الثلاث لتوافق حول قواعد تشغيل السد وتخزين المياه. والتساؤل الآخر كان عن أسباب تصورى لإمكانية نجاح مبادرة خريطة الطريق، بينما فشلت قبل ذلك مفاوضات اتفاقية عنتيبى التى استمرت لأكثر من عشر سنوات. وكانت إجابتى أنّ خريطة الطريق تعكس مصالح إثيوبيا بالتوازن مع مصالح مصر والسودان، وتقر لإثيوبيا بحقها فى بناء سد النهضة، وأيضاً السدود الأخرى المقترحة على النيل الأزرق، لكن مع مراعاة حياة أشقائها فى الشمال. وتطرح المبادرة استقطاب فواقد النهر وزيادة إيراده لسد الاحتياجات المائية لدول حوض النيل الشرقى وبما يجنبهم الصراع، بل تضمن تنمية جنوب السودان واستقراره، وبالتالى استقرار المنطقة ككل. والتنمية واستقرار هذه المنطقة يخدم أهداف ومصالح الدول الكبرى ويسمح بتنمية الموارد البترولية والمعدنية الموجودة بوفرة فى المنطقة، ويزيد من حجم التجارة الإقليمية والدولية، ويساعد فى القضاء على الإرهاب. أمّا مفاوضات عنتيبى فإنّها لم تكن تهدف للوصول إلى حل وسط، بل كانت تعكس صراعاً بين طرفين (دول المنبع ودولتى المصب)، كل منهما يسعى لفرض موقفه على الآخر ودون تقديم تنازلات، وأنّ اتفاقية عنتيبى التى وقعها عدد من دول المنبع فى رأيى غير متوازنة تميل لصالح دول المنبع، على حساب دول المصب. وجدير بالذكر أنّ مبادرتى أو غيرها من المبادرات لن يكتب لها أى نجاح إذا ما كان الخلاف فى حقيقته سياسياً وليس تنموياً، وأن يكون الهدف وراء هذا الخلاف هو تغيير الخارطة السياسية وبزوغ قوى إقليمية على حساب قوى أخرى، وفى هذه الحالة قد تتصاعد الخلافات عاجلاً أو آجلاً، وبشكل قد يضر بالجميع. وكان هناك تساؤل ثالث حول ما يملكه المفاوض المصرى من أوراق تدعم موقفه التفاوضى وتساعد فى تغيير مسار المباحثات. فقلت إننى أحب أن أكرر ما أكدته فى بداية المحاضرة بأننى لا أمثل الحكومة المصرية أو أتحدث باسمها، وليس لى بها علاقة مباشرة، لكننى أتحدث كمواطن ومفكر مصرى. وفى اعتقادى الشخصى أنّ مصر لديها الكثير من عناصر القوة الاستراتيجية، رغم ما تمر به من ظروف داخلية، ومن أهم هذه العناصر موقعها الاستراتيجى فى أفريقيا وآسيا والعالم العربى وحوض البحر المتوسط، وقناة السويس، ومخزونها الثقافى والحضارى الممتد، وقوتها البشرية، والأزهر والكنيسة الأرثوذكسية، والثقافة المصرية، وتقدم مصر الإقليمى فى معظم المجالات العلمية والمهنية والتكنولوجية، وتمتعها بأكبر شبكة من المرافق الخدمية على مستوى القارة الأفريقية، وجيشها القوى، ومكانتها السياسية الدولية والإقليمية حتى إن تأثرت أخيراً بعدم الاستقرار الداخلى. وبالنسبة للخلاف على سد النهضة، فإننى أتوقع أنّ الأزمات الداخلية والخارجية التى تتعرّض لها مصر لن تستمر طويلاً وستتغير هذه الظروف الطارئة سريعاً. ولكن يجب إدراك أنّ التاريخ يذكر أنّ العلاقات بين مصر وإثيوبيا كانت دوماً ما بين شد وجذب، ولم يحدث تقارب حقيقى كبير بين الدولتين، رغم أنّ تقاربهما سوف يمثل عامل استقرار كبير للمنطقة ولأفريقيا، وسيخدم أهداف التنمية والاستقرار لشعبيهما. أمّا إذا كان المقصود من السؤال هو ماذا تستطيع مصر عمله إذا أصرت إثيوبيا على الضرر بمصر ولم تقم بما يجب عمله لتجنّب أسباب الضرر أو تقليله، فإن إجابتى ومن منطلق تخصصى هى مقاطعة الكهرباء الإثيوبية وعدم استيرادها، وهذا سوف يعطل نسبياً من إنشاءات سد النهضة، وسوف يؤثر سلباً على مخطط السدود الكبرى الأخرى على النيل الأزرق، وممّا لا شك فيه أنّ تدهور العلاقات بين الدولتين سوف تكون له انعكاسات سلبية على مصالحهما الإقليمية والدولية.