لم يعد يصادق المصرى شيئاً فى حياته كما يصادق التليفون، ربما كان المصريون سواء مع غيرهم فى هذه العادة، لكن ثمة اختلافاً بيننا وبين غيرنا فى حجم ونوع الدور الذى يلعبه التليفون فى حياتنا. التليفون لدينا فى مصر «إيدينا ورجلينا»، فهو الأداة المفضلة لدى الكبار فى التواصل العائلى، ولدى الشباب فى التواصل العاطفى، ويتجاوز التليفون دوره المعتاد كأداة للتواصل بين البشر إلى أن يصبح وسيلة ل«البزنس»، مؤكد أنك سمعت عن بعض رجال الأعمال الذين يديرون صفقات بملايين، وأحياناً بمليارات الجنيهات، من خلال تليفون، ليس ذلك وفقط، بل لقد أصبح للتليفون دور مهم فى «السياسة»، وربما كان ذلك هو الجديد الذين انضاف إلى مهام التليفون فى حياة المصريين، والذى يستحق أن نتوقف أمامه بقدر من التفصيل. التليفون والمكالمات التليفونية أصبحت جزءاً من «السيرك السياسى» الذى نعيش فى ظلاله منذ عدة شهور. وأقول «السيرك» لأن الحالة السياسية فى مصر تقدم لنا لاعبين يتشابهون إلى حد كبير مع بهلوانات السيرك، فجلهم يظهر للجمهور وقد صبغ وجهه «بسبع وقق مساحيق»، على رأى عم صلاح جاهين. ولا يخلو المشهد أيضاً من فقرات مثيرة أساسها الثرثرة والبغبغة والثغاء والعواء، وغير ذلك من أصوات سمعها كل من ذهب إلى سيرك حقيقى. فجوهر السيرك «صوت»، وعندما يتحول مشهد سياسى إلى سيرك، فابحث عن الأداة التى تنقل الصوت، وتنهض بتسجيله، لتضع تلك التسجيلات تحت الطلب، ليتم توظيفها وقت اللزوم. «تسريبات»! هل سمعت هذه الكلمة قبل موجة الثورة الثانية فى 30 يونيو؟! أظن أنها جديدة على قاموس الحياة السياسية المصرية، وأنها وُلدت مع ظهور التسريبات التليفونية التى تطوعت بعض الجهات ب«تسريبها» إلى الإعلام، وبدأت رحلتها بالتسريبات الخاصة بعدد من الشخصيات المحسوبة على ثورة يناير، حين حاول بعض الإعلاميين ذوى الصلة بأجهزة أمنية بثها إلى الرأى العام، كاجتهاد منهم لتصحيح ما يعتقدون أنه تصورات خاطئة لدى المصريين عن ثورة يناير. صلة هؤلاء بأجهزة الأمن معروفة، وهم لا يجدون غضاضة فى ذلك، فهم -من وجهة نظرهم- يحمون الدولة المصرية ويحاولون تفكيك المؤامرات التى تتعرض لها، لذا يبررون لأنفسهم هذا الفعل، مرتكنين فى ذلك على رخصة «التجسس على أعداء الدولة المصرية». دخل الإخوان بعد ذلك على الخط بتسريبات تحاول أن تؤكد العكس، ظن من بثها أنها ستكشف رجال الدولة الذين يكيدون للشعب، وكان لبعض هذه التسريبات أصداء محسوسة، وبرر الإخوان لأنفسهم السقوط فى معصية التجسس على الآخرين بالاستناد إلى رخصة «التجسس على الدولة عدوة الشعب»! بعدها بدأت موجة تسريب مكالمات تليفونية لإعلاميين، وأعقبها موجة تسريب مكالمات لرجال أعمال. وفى كل مرة كان يجد من يقوم بذلك عشرات الذرائع والأسباب التى تبرر له ما يفعل. فآلة التبرير داخل السيرك لا تتوقف عن العمل. المشكلة أن فوضى تسريب المكالمات التليفونية تعكس أمرين فى منتهى الخطورة، أولهما: أن ثمة جهات تتصارع فيما بينها داخل السيرك السياسى المصرى، وتنظر كل منها إلى تسريب المكالمات كأداة من أدوات الصراع، وثانيهما أن المبدأ القانونى المتعلق بحماية الخصوصية أصبح فى خبر كان. أمر طبيعى.. فلا مكان للخصوصية داخل السيرك!