عندما يكون للانحناء.. كبرياء ■ فى خطوات ثابتة مضت الباليرينا القديمة على المسرح الكبير، تتبعها دائرة الضوء، وكأنها خرجت لتوها من بحيرة البجع المسحورة، لكنها كانت مرتدية الزى والقلنسوة التقليديين المميزين لمانحى درجة الدكتوراه التى منحتها للكثيرين طوال فترة أستاذيتها، ازدادت الموسيقى تدفقاً من جوانب القاعة الكبيرة، وبدا خلفها الأرغول الضخم الذى يميز قاعة سيد درويش وكأن الحياة انبعثت فيه من جديد، تعدت كبار المسئولين والوزراء بمنتصف الصف الأول تماماً، ثم عمداء المعاهد الفنية المتعددة، التى تنفرد بها أكاديمية الفنون لدينا عن سائر دول العالم، وقد اصطفوا على المسرح بذات الزى التقليدى تحيطهم هالة من الوقار والجلال، يقودهم صديق العمر الجميل د. عادل يحيى نائب رئيس أكاديمية الفنون مقدمين لها تحية العلماء، تبادلهم إياها فى هدوء، مستكملة طريقها، وما زالت عيون الحضور تتبع خطواتها الواثقة لغايتها المبهمة، حتى وصلت إلى طرف المسرح، تضع يدها اليمنى على جانبها الأيسر حيث القلب، فتزداد دهشة الحاضرين، ووسط آلاف العيون المترقبة، تقف مشدودة القوام، كأميرة محاربة تتأهب لإلقاء قسم المحارب أمام رجال فى سن الحكمة يجلسون فى المقاعد الجانبية، ينحنى رأس المحاربة فى صمت لكنه يبوح بكبرياء، يقفون ويبادلونها التحية بجلال ليتوقف الزمن، ويسود المكان صمت مهيب، وكأننى أرى لوحة على جدار الزمن لمعبد قديم حيث يقف الجميع فى محراب العلم بخشوع، فى صمتهم لغة خاصة جداً لا يعرف مفرداتها الكثيرون فى عالم التردى والخذلان، لأدرك كما أدرك الجميع دون سؤال، من يكونون، لا تهم الأسماء أو الهوية، فالاعتراف بفضل الأساتذة قيمة تتلاشى عندها التفاصيل، ويبتسم الرواد فى امتنان أستاذ لتلميذه، بعد أن انتفت المصلحة، لتنطلق أكف الجميع هادرة بالتصفيق تحية لقيمة نفتقدها كثيراً، إنه الوفاء والعرفان بالجميل، وكعادتى التى لن أشتريها أحاول دون جدوى إخفاء دمعة متمردة تبوح بما لا تملك له الكلمات سبيلاً، ثم يبدأ الحفل الكبير لتكريم الفنانة شادية ومنح الدكتوراه الفخرية لبعض الفنانين العرب الكبار، ورغم كل التفاصيل الجميلة للحفل الرائع تظل تلك اللمحة هى الأثيرة لدىَّ، لأشعر بأمانة تسجيل اللحظة، متمنية أن تصل الرسالة لكل أبنائنا طلاب العلم، ليس فقط فى ذلك الصرح المسئول عن الذوق العام وتوثيق أيام الوطن من خلال فنونه الكثيرة، فالممارسة الفعلية هى أسرع وأصدق الطرق لتعليم سلوك وإفشاء فضيلة لا التنظير والمحاضرات وأقوال تناقضها الأفعال، أتوجه إليها رغم عدم معرفتى بها مسبقاً فتبوح يدى بما لا تسعف به الكلمات أشد على يدها وأنا أردد «مصر محتاجة الروح دى، شكراً د. أحلام يونس رئيس أكاديمية الفنون بمصر». لسَّه الأمانى ممكنة ■ ذهبت أخيراً فى ذيل طابور طويل من المحبين والمريدين والمهنئين، وكذلك المزاحمون من و(العياذ بالله) المنافقين الذين لا يخلو منهم مكان لتحية الأستاذ الدكتور سيد خاطر، رئيس قطاع الإنتاج الثقافى، ويا له من إرث ثقيل، لأجده منهمكاً فى التفاصيل بدءاً من تفعيل خطط واستراتيجيات سمعنا عنها كثيراً من قبل دون أن ترى النور، نهاية بنظافة وآدمية مرافق مسارح الدولة ومنشآتها، تتدفق أفكاره منتظمة واضحة تتقدمها أرقام ونتائج عملية فى تلك الفترة الصغيرة (أربعة أشهر) هى عمر مشواره الصعب مع القطاع المسئول عن ثقافة الفقراء، السيرك القومى وعودة متعة الصغار التقليدية، وإنسانية التعامل مع إصابات أبطاله المجهولين المخاطرين بحياتهم كل يوم فى صمت من أجل لقمة العيش وعشق حد الإدمان، إيرادات غير مسبوقة منذ وقت طويل، وعودة الأنوار لشبابيك التذاكر هنا وهناك، طموحات لم نعتَدها من موظف عام ولكنها تليق بحالم فنان، تحاول امتطاء جياد الأيام لتعلن (لسَّه الأمانى ممكنة). أكتشف صدفة ما يدهشنى من تقشف وإصراره على تحمل نفقات حتى أسفاره فى المحافظات، أعترض لما فى ذلك من ظلم وإجحاف لنفسه، أتذكر الفنان توفيق عبدالحميد واجتهاده فى ذات المنصب أورده، حجرة فى مستشفى ليتداوى من الضغط والسكر، ولكن كيف السبيل للتداوى من أعراض الفساد والخيانة والخذلان، ليرحل أحد الفرسان مؤثراً الانسحاب من دائرة الضوء بعد أن فقد القدرة على الاندهاش -على حد تعبيره- ولكن تظل طموحاته قيد الأحلام، فأرجو للفارس الجديد المزيد من العند والإصرار، ألمحهما بين كلماته، فما أشد حاجتنا فى الزمن الردىء للشرفاء وأصحاب الرؤى، خاصة فى الجهاز المسئول عن ثقافة الوطن، وتكوين وجدانه، شكراً د. سيد خاطر.