أنا من أكثر المحبين صمتا يا وطن، وأثقلهم جبنا. انقضى الوقت بحثا عن موطئ لقدم على أرضك. حيث يمكن أن تسمعني ؟ هل تسمعني ؟ احتل الصمت طولا وعرضا، وما تحت السطح عميقا، أوراقنا. وثيقة سفري لا تحمل مهنة أو صفة، ولا مقرا . يوم أن خطرت بقلبي خاطرة، عابرة حيية، همسا سرا، " يقينا سأكتب "، وكانت جدتي التي تقرأ وبالكاد تكتب تقول لي " تريدين أن تكوني أديبة "أديبة تحديدا ! يا الله كان لابد أن تسمعها من فمها الدقيق (!) يومها عندما انسابت الكلمات متصلة ، مهمومة، دافئة بمعنى تكاثف دفقة واحدة، كان تمام موعد خروجي،مكرهة، من الدار التي تهجيت فيها الحروف، واستدفأت بين دفتيها بأقران الصفحة والمتن. بعد سنوات اقترن بها مسار التهيؤ للكلمة وملاحقة المعنى المراوغ على أرضها . في كل مرة ما يكاد الصوت يتخطى رنات الطفولة وعتبات الوجل، مكتشفا مداه، وفاتحا مداخل نصه المتنامي حتى تأتيه الصاعقة، ويعود إلى نقطة الصفر والمبتدأ . يقولون الصمت السحيق يأتي عندما تعجز الكلمات. وعجز الكلمة في الغرام قصائد مطولة، لكنه على الورق فراغ أبيض . اعتدت أن أنظر كثيرا في الفراغات. الفراغ بين الكلمات والأسطر. تلعثم المعنى وعصيانه على التجسد. فراغات الزمن وعجزك عن الحياة . غير المقاطع القصيرة البيضاء والصفحات الفرادى المنثورة في الكتاب والتي تحول دون تدفق الكلمات، ثمة أوراق متلاحقة، مَلازم كما يقول أهل المطبعة، بلا رقم يذيلها. يقطعها أحيانا أو نادرا، وعلى النقيض، مخزون محاولات ضخ الصوت في الحنجرة. حبر يخضب أبيضك الصامت على نحو يبدو مفاجئا، غير أنه حصيلة ارتجالات طويلة محبطة لعارض لا يقدم عرضه ويدور في فراغ المنطقة الميتة بلا ضوء. وإن عرض على مسرح، فلليلة أو ليلتين، يستجمع فيها إرادته، خبرة التدريبات، ورغبته المستميتة في الوصال. لا يملك ترف الاسترخاء، ساعتها، وإن كان الجمهور عددا محدودا من العابرين جاءوا مصادفة. يقاوم رهبة الخشبة ويؤدي بكل هذه الطاقة، وما يدري. وبعد كل هذا الشوق يدخل مرة أخرى، وسريعا، ظلمة الانتظار. وما يدري . كنت حتى مارس 2011 أكتب (ع الأرغول) أسبوعيا كعمود ثابت في جريدة (القاهرة)، متشرفة برئاسة القدير: صلاح عيسى. كنت في منتصف عامي الثاني وقد بدأت أستطيب حروفا نشأت خشنة وعرة. كان النص على مشارف تبيان طريق . في يناير 2011 حدث الخطأ التراجيدي. كانت كلمة وطن قد اختفت على مدى سنوات الأبيض والرمادي. كان الشاعر عمر نجم قدقال عام 1991: " لسه متعلق في ديل النون/ في كلمة وطن ". تعلمنا أن نرسل الكلمات معلَقين من نقطة افتراضية، ونؤمّنها الهواء … الفراغ. وما ندري ! حدث في يناير 2011 أن عادت كلمة وطن بقوة. كدنا لا نصدق. وكنت أخرج في جولات استطلاعية حذرة، أتفقد حروف الوطن حرفا حرفا. الواو، الطاء، النون. هل يمكن أن نتهجى الحروف مرة أخرى، ننطقها همسا، نتذوقها، نلهج بها، نغني، نصيح، نحيي العلم وندب بأقدامنا على أرض الوطن. أنطمئن إلى النون ونسطر ما لم نعلم. ونستدفئ بكامل استدارة جدارها . في مارس 2011 توقفت عن كتابة (ع الأرغول). كان الزبد الأبيض قد وصل مداه، وتزلزل النص الكبير الجاثم زلزالا انكشفت به هشاشته البائسة، وطغيانه الأجوف. وتجاذبته، بل صدعته الأنواء والتيارات. وعندما يصاب المتن بمثل هذه الإصابة، على ركاكته، تضطرب حروف الهامش، وتفقد النصوص البديلة مرجعيتها المناوئة . أعود اليوم إلى ( الأهالي) التي شهدت مقاومتي للأبيض، متهدجة مرات ومتواصلة مرة. أردت أن يتسمى العمود بما يوحي بالارتجال ارتباطا بالمسرح، عشقي الأول، أو توابع الصمت. قالوا تخلين مسئوليتك، وفي مثل هذا الوقت، قلت فليكن " بين سطور ‘ المجهول .