تسليم الكتب للطلاب في اليوم الأول من العام الدراسي الجديد    هبوط أسعار الذهب اليوم السبت 21 سبتمبر 2024.. مفاجأة سارة    بشرى سارة.. وزير الإسكان: تخفيض 50% من رسوم التنازل عن الوحدات والأراضي    وزير الإسكان: تخفيض 50% من رسوم التنازل عن الوحدات والأراضي بالمدن الجديدة    العاهل الأردني: يجب التوصل لوقف إطلاق النار دائم في غزة    مسار صعب يخوضه رئيس الوزراء الفرنسي .. تحديات بانتظار الحكومة الجديدة    أستاذ علوم سياسية: توسيع الحرب مع حزب الله يعرض تل أبيب لخطر القصف    تشكيل ليفربول المتوقع أمام بورنموث.. صلاح يقود الهجوم    الزمالك يواجه فرق الشباب وديًا استعدادًا لموقعة السوبر الأفريقي    «بعد حبسه».. بلاغ جديد للنائب العام ضد الشيخ صلاح التيجاني يتهمه بازدراء الدين    الحالة المرورية بالقاهرة الكبري.. سيولة بشوارع وميادين القاهرة والجيزة    زاهي حواس: حركة الأفروسنتريك تهدف إلى إثارة البلبلة لنشر معلومة زائفة وكاذبة    «الصحة» تعلن استعداداتها للتأمين الطبي للمنشآت التعليمية تزامنًا مع بدء العام الدراسي الجديد    توزيع الحلوى والورود على الطلاب.. بدء الدراسة بحضور الصفوف الأولى بكفر الشيخ (صور)    بإجراءات جديدة.. المدارس تستقبل الطلاب في أول أيام العام الدراسي (تفاصيل)    الولاء والانتماء والمشروعات القومية.. أول حصة في العام الدراسي الجديد    مسؤولون أمريكيون: البيت الأبيض يتوقع توسع القتال بين حزب الله وإسرائيل    مجلس الأمن يحذر من التصعيد ويدعو إلى ضبط النفس بلبنان    بدء التصويت في الانتخابات الرئاسية في سريلانكا    بوتين يشكل لجنة لإمداد الجيش الروسي بالمتعاقدين    ب«العمة والجلباب».. «المعاهد الأزهرية» تستقبل طلابها في أول أيام الدراسة بقنا (صور)    تقلبات أسعار الذهب في مصر: تقرير شامل لأسعار اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    اليوم.. نهائي بطولة باريس للاسكواش ومصر تسيطر على لقبي الرجال والسيدات    ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز قبل الجولة الخامسة    أسعار الفاكهة في سوق العبور السبت 21 سبتمبر    أسعار الأسماك اليوم السبت 21 سبتمبر في سوق العبور    "مدرسة صفا مدرسة انتباه".. انطلاق العام الدراسي الجديد في بورسعيد - صور    استشاري نفسي: نشعر بالسعادة في فصل الخريف لبطء الحياة بعودة الروتين    انخفاض جديد في درجات الحرارة.. الأرصاد تزف بشرى سارة لمحبي الشتاء    استقرار أسعار اللحوم الحمراء اليوم السبت 21 سبتمبر    السياحة تشارك في الدورة ال8 للملتقى الدولي لفنون ذوي القدرات الخاصة    هاني فرحات وأنغام يبهران الجمهور البحريني في ليلة رومانسية رفعت شعار كامل العدد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    ما حكم تلف السلعة بعد تمام البيع وتركها أمانة عند البائع؟.. الإفتاء تجيب    أسعار الاسماك والمأكولات البحرية اليوم في سوق المنيب بالجيزة.. «البلطي» بكام؟    وزير الخارجية: مصر تدعم جهود الحكومة الصومالية الفيدرالية الرامية لتحقيق الأمن ومكافحة الإرهاب    «عاشور»: ارتفاع عدد الطلاب بالجامعات والمعاهد التكنولوجية    استكمال محاكمة محاسبة في بنك لاتهامها باختلاس 2 مليون جنيه    احتجزه في الحمام وضربه بالقلم.. القصة الكاملة لاعتداء نجل محمد رمضان على طفل    ريم البارودي تعلن انسحابها من مسلسل «جوما» بطولة ميرفت أمين    عاجل.. فيفا يعلن منافسة الأهلي على 3 بطولات قارية في كأس إنتركونتيننتال    ضبط 12شخصا من بينهم 3 مصابين في مشاجرتين بالبلينا وجهينة بسوهاج    وفاة والدة اللواء محمود توفيق وزير الداخلية    رياضة ½ الليل| مواعيد الإنتركونتينتال.. فوز الزمالك.. تصنيف القطبين.. وإيهاب جلال الغائب الحاضر    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    بسمة وهبة تحتفل بزفاف نجلها في إيطاليا (فيديو)    موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للموظفين والمدارس (9 أيام عطلات رسمية الشهر المقبل)    تحرش بهما أثناء دروس دينية، أقوال ضحيتين جديدتين ل صلاح التيجاني أمام النيابة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    عبد المنعم على دكة البدلاء| نيس يحقق فوزا كاسحًا على سانت إيتيان ب8 أهداف نظيفة    بدائل متاحة «على أد الإيد»| «ساندوتش المدرسة».. بسعر أقل وفائدة أكثر    ضائقة مادية.. توقعات برج الحمل اليوم 21 سبتمبر 2024    مستشفى قنا العام تسجل "صفر" فى قوائم انتظار القسطرة القلبية لأول مرة    عمرو أديب يطالب الحكومة بالكشف عن أسباب المرض الغامض في أسوان    جوميز: الأداء تحسن أمام الشرطة.. وأثق في لاعبي الزمالك قبل السوبر الأفريقي    أكثر شيوعًا لدى كبار السن، أسباب وأعراض إعتام عدسة العين    آية الكرسي: درع الحماية اليومي وفضل قراءتها في الصباح والمساء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [9]
نشر في الوطن يوم 02 - 11 - 2012

منذ عامين، مر الأديب جمال الغيطانى بأخطر لحظات واجهته فى حياته، رغم أنه عرف الأخطار كثيراً زمن الحرب، وفى ظروف أخرى، غير أن الفرق كبير بين خطر يأتى من الخارج، ومداهمة من الداخل، بدأت الأزمة على الهواء مباشرة فى برنامج تليفزيونى، وانتهت فى مستشفى كليفلاند. ذلك الوقوف قرب نقطة العبور إلى الأبدية، وعندما يكون الإنسان أديباً، مبدعاً، مهموماً بالمصير، بالمبدأ والمعاد، فإن الموقف يكون أدق، كان الغيطانى محظوظاً، عبر إلى هناك وعاد ليقص علينا عبر هذه النصوص الفريدة دراما المصير، نصوص جديدة، ليست يوميات، أو سجلات مباشرة؛ لكنها تبدع اللحظات النادرة والحافلة بالرؤى لتضيف صفحات جديدة إلى كتاب الألم الإنسانى.
ظل
يبدأ المشى منفرداً، غير أن ظله يصحبه، حتى إذا اختفى لشدة الضوء، فإنه يظل موجوداً، منبعثاً منه، عند نقطة بعينها يتصل به، فيصبح له وجود آخر حتى وإن غاب عن بصره، يحدث ذلك نهاراً أو فى العتمة، الوقت الذى اعتاد المشى فيه قريب من الحافة الفاصلة بين الليل والنهار، الخامسة مساء، عندما يقول الناس: مساء الخير، خلال هذا التوقيت يتراوح ظله، مرة يظهر، يختفى، أمامه، خلفه، إلى جواره، أياً كان موضعه لا يغيب عنه حتى فى اختفائه.
يخرج من المبنى، يدور حوله، يعبر شارع كِنْت العريض حذراً، يتأكد من خلو الممر المخصص للدراجات، يليه عرض الطريق ذو الاتجاه الواحد، يخشى الدراجات لصمتها أثناء الاندفاع. لمرورها فى اتجاهين، لن ينسى ما كاد يلحق به فى إيرلنجن الألمانية حيث الدراجات وسيلة رئيسية، صحيح أن العجلة تبدو رهيفة بالقياس إلى السيارة، لكنه لا يدرى ما ينتج عن اصطدام خلال اندفاع، منذ هذه اللحظة يحذر عند عبور الأماكن المخصصة، فى شنغهاى صباحاً رأى أمواجاً منها، كثافة لم يعرف لها مثيلاً فى أى بلد، الرجال والنساء يتخذون وضع القيادة، الانحناء، التطلع إلى الأمام، حتى عند الوقوف فى الإشارات الحمراء، يظلون فى الوضع نفسه وعيونهم إلى الأمام، حركة خاصة لم تفارقه، يتذكرها هنا، يرى جزءاً من الجسر الضخم، النهر إلى الخلف، ليس نهراً بالضبط، إنه شق من المحيط وإليه، المياه الجارية فيه مالحة، كما نصحه الطبيب يبدأ الخطو متمهلاً، يزيدها شيئاً فشيئاً ثم الحفاظ على الوتيرة لمدة معينة قدر ما تسمح به الظروف، الشوارع العرضية أو الرأسية شبه خالية، خاصة هذا الوقت الذى تنتهى فيه نوبات العمل فى المؤسسات والإدارات والمكاتب، سواء فى مانهاتن أو غيرها، بدءاً من قرب السادسة وحتى الثامنة يبدأ تدفق القادمين إلى مقار إقامتهم، معظمهم فرادى، يتكاثفون عند المخرج شيئاً فشيئاً، يتفرقون، بعضهم يمضى وقتاً مقدار تناول وجبة عشاء سريعة، يمر بهم فيستدعى لوحات أدوار هوبر، الوحدة الإنسانية فى أقصى حدودها، عند المشارف، العينان تتطلعان إلى اتجاه واحد، مع الاقتراب من شارع بدفورد يتكاثف المارة والحضور لكن ليس إلى حد التزاحم، عند ناصية الثالث تقف عربة معدة كمطعم متنقل، السندويتشات والوجبات السريعة، اثنان يقفان داخلها، أتقن ملامحهما غير أنه يثق أنهما لم ينتبها إلى مروره اليومى المتكرر فى نفس التوقيت تقريباً، مشغولان، أسعارهما أهدأ، ثمة شىء يقربه إلى الشارع، ربما متاجره ومقاهيه الصغيرة، تنوعها، ربما تلك الأشجار الرشيقة، ربما عتاقة البيوت وتقارب ارتفاعاتها، فى الضواحى الأمريكية والمدن الصغيرة شارع رئيسى، تتركز فيه المطاعم والمتاجر الرئيسية، تتشابه معظمها، لا شىء محدداً يميز هذا من ذاك إلا مبنى قديم لا يتجاوز عمره قرنين من الزمان، لكن الأمر مختلف هنا، يفضل إطالة مدة المشى به، يصعد إلى أقصى نقطة عند الجسر، أحياناً يتجاوزه، يعبر تحته إلى الناحية الأخرى الموغلة إلى بروكلين، أو يمضى يساراً حتى مدخل الحديقة التى تشهد سوق الفلاحين صباح كل سبت، يجيئون إليه من المناطق الريفية المجاورة، ثمار مقطوفة من المزارع رأساً، وأقراص طازجة من الفطائر وأنواع من الخضار ومشروبات طازجة، يمشى متخللاً تلك الدروب التى ستصير ذكرى، منها الماثل المقيم وبعضها لن يستعيده أبداً، يتطلع إلى مداخل البيوت، إلى ما وراءها، مستوعباً بقدر الإمكان، ناشراً فضوله، موزعاً ظله.
يثق أنه يبقى بشكل ما، فى حضور ما لا يدرى كنهه، صحيح أنه يتبعه، لا يفارقه حتى عند اختفائه خاصة لحظة تعامد الضوء رأسياً على كافة ما جال به وأتى من الأدانى والأقاصى، لم يهتم إلا بظله المنبعث منه، لا يدرى أيهما الأصل، الأصل فى الأشياء الظل، فى الشارع الذى يهوى عرض مستمر للإبداع الأنثوى متعدد المصادر لتنوع الأصول، يتبع ملامح بعينها أو قوام مياد يوشك أن يدفع به إلى حافة الهوى الغامض المبهم المستعصى على كل تفسير أو إيضاح، غير أنه لم يتوقف قط عند ظلالهم، مع أن ما يتبعه يختلط فى مرات نادرة بظلال أخرى، يمتزج بها وربما يندثر للحظات، يتوحد الظل بالظل رغم استمراره، مضيه منفصلاً، متوحداً، لم ينشغل إلا بظله، ما يحدد ظهوره سواء مصادر منفصلة أو كونياً يتبع دورة الفلك، ما يوحد بين المحدود جداً، مجرد مصباح يدوى صغير، وجرم هائل يدور هناك، أن ما يصدر عنهما مستحيل إدراكه أو التفاهم معه، أو الحوار المكين أو العابر، لا مادى مستنسخاً منه أو العكس، كل منهما يحدد موقع الآخر بقدر، طبقاً لمصدر الضوء، للحركة، للاتجاه، لإقباله أو إدباره، لذهابه أو مجيئه، عند طلوعه ونزوله، رغم اندغام الملامح ونفاد التفاصيل، إلا أنه كان يتعرف على كينونته عبره، إذ يمتد نحيلاً طويلاً، يدق أحياناً حتى لا يزيد على سمك الحبل أو العصا المفتولة، يكاد يختفى قبل أن يمتد منه إلى جهة مغايرة تتبع وتمتثل لمصدر الضوء، سواء كان مصباحاً معلقاً أمام باب، أو لمبة يدوية تمتص على مهل حثيث ما تختزنه من زيت، أحياناً ضوء مؤقت، عابر، منبعث من نافذة فى طابق أرضى أو علوى، ضوء مرسل يحدد مصير ظله، مصيره، أما المحددات الكونية فموضع انشغالى، خلال توجهى بالنظر، أو سفرى جواً أو براً أو بحراً، أرقب الفراغ وما يصلنى به، من خلال نافذة الطائرة ألمح لجزء من الثانية ظل الطائر يجتاح الغمام، كلاهما هش، لا يمكن التعلق به أو التثبت منه، لكنه بادٍ، واضح، غير قائم، أو يملس على أمواج يتيح صفاء الجو رؤية تدرجات اللون وتدافعات أمواجه، لا يستغرق الأمر إلا بريهة، فكر مبتهجاً لسبب ما، أنه موجود، مقيم فى هذا المارق، العابر، صحيح أن الشكل للطائرة، غير أنه داخلها، إنه موجود فى هذا الظل، جرى له مثل ذلك خلال حدث كونى لا يتكرر إلا بعد سنوات عديدة، ربما يقيم البعض ويعبرون الحياة منتقلين من عدم إلى وجود إلى عدم بدون أن يعرفوه، لأنه مشغول بحركة الفلك خرج إلى الخلاء، بعيداً عن زحام المدينة فى المرصد أصحاب توثقت علاقته بهم عبر متابعته أنشطتهم، التعريف بهم كلما تيسر له ذلك عبر الصحف السيارة والتليفزيون.
مكث متطلعاً إلى أعلى، متطلعاً بكافة ملامحه وخباياه، وما يهوى إلى الفراغات العلى، منتظراً لحظة بدء خسوف كلى لا يتكرر، إلا كل مقدار من السنوات، يتجاوز حضوره المؤقت، العابر مهما طال بالقياس إلى متوسط أعمار الجنس الإنسانى، فى المرة القادمة عندما تنتظم الدوائر، وتعود سيرتها الأولى، لن يوجد فى العالم، سيخلو الوجود منه، لذلك أضمر التركيز وشدة التحديق، لن يتاح له هذا مرة أخرى، عبر منظار خاص رصد بداية ظهور ظل الأرض فوق القمر، دوائر، الكون دائرى، كل الموجودات، غرف الدفن فى المقابر المصرية القديمة مثل الأرحام، بيضاوية، من رحم عابر، إلى رحم مقيم ليس فيه ظل لأن الوجود ينتفى فلا تبقى إلا ذكرى فى بعض الأفئدة إلى حين، والذكرى ليس لها ظل.
فى البداية يحدق منبهراً إلىّ بحركة الجرمين التابعين للشمس، كل منهما منجذب إلى الآخر، قد يحدث خطأ ما فيندفع كل منهما إلى الآخر، أو إلى جوف هذا الأتون المقيم، الشمس، ها هى الأرض بادية من خلال ظلها، الكوكب الذى وُلد فوقه وسيرقد فى رحمه، ماثل أمامه، يتزايد حضوره عبر ظله الدائرى، فجأة واتاه الإدراك.
«إننى ماثل هناك، إننى جزء من هذا الظل...».
إنه هناك، موجود حيث يصعب الوجود، قائم حيث لم يدرك ذلك بالخيال، رغم بقائه فى كوكب الأرض، فإنه بدأ يوقن من سفره إلى هناك، سطح القمر، حفره، وديانه، جاذبيته الخفيفة، رغم العتمة التى أصابت الضوء واكتمال اختفاء القرص، فإنه بدأ يتعامل مع فكرة وجوده هناك طوال وقت الخسوف، كان فى البداية خلال تلك الظواهر الكونية يشخص إلى أعلى مشدوداً، منجذباً إلى ما يراه أكثر محسوسية لحركة الكون، عين ما جرى أيام اقتراب المريخ إلى أقصى نقطة من الأرض، أمضى الأيام الثلاثة معلق البصر إلى الكرة الدائرية التى بدت فى حجم كرة التنس، كان صاحبه عالم الفلك ينتفض أثناء العشاء، أو الاجتماع مع زملائه معلناً أن المريخ فى المدار الآن، الرؤية بالبصر المجرد ممكنة، يتطلع إليه مبهوراً متمنياً لو أنه أبحر مثله فى هذا العلم ناهلاً منه ما يمكنه تحديد مواقع الأجرام وحركاتها بدون التطلع إلى السماء، إلى الأفق، هكذا.. يدور كل شىء داخله هو، يمسك بالمسارات والقياسات وتحديد الاتجاهات.
أثناء تمدده فوق المنضدة المستطيلة، أكدت السيدة -التى لا يوقن حتى الآن إن كانت حقيقة أو خُيِّل إليه حضورها- أنها التى ستجرى فوقها الجراحة، بعد إحكام وثاقه عند الساقين استوعب ما يقدر عليه من درجات اللون الأزرق، كان راغباً فى اجتياز هذا كله بسرعة، عبور الفراغ الدائرى الذى بدا له وحيره أيضاً، لم يدر، أهو محيط لأنبوب لا بد من اجتيازه، أم إنه صدى لشىء آخر، عبر نظرة سريعة جانبية لمح آلة كريستالية المشهد، كل ما ينبعث منها أزرق سماوى، درجة من اللون يفضلها وينتمى إليها، غير أنه لم ينشغل بها، لم يستفسر عن وظيفتها، كان متعجلاً، يدفع نفسه صوب الغياب.
عندما رُد إليه وعيه، بعد أن رأى مصدر ذلك الضوء البارد، الشاحب فى السقف إذ كان منطرحاً تماماً على ظهره، بعد حوالى دقيقة أو دقيقتين شغله ظله، أين؟، حتى إذا توارى تماماً بتأثير الضوء أو الرقدة فلديه يقين بوجوده فى مكان ما، موضع لا يقدر على تحديده، تماماً، كل ما خلفه من ظلال تتقارب، تندمج فى سريان أشمل يبدد ملامح ما عرفه من وجود كل شىء، حركة بطيئة لا تكاد تلحظ إلا بعد تمامها، مثل هذا الظل الذى غطى القمر وحجب ضوءه، لم يهتم بذلك، إنما شغله ما أدركه أنه هناك، موجود فيه، جزء منه.
يشغله هذا كله أثناء سعيه اليومى المنتظم عبر الشوارع المتقاطعة، المتعامدة، الخريف على المشارف، بدأ العد التنازلى لسفره، عودته إلى محل إقامته، لم يخف بهجة وقوفه حتى إن ابنته المقيمة هنا أبدت اللوم والشجى، «أنت فرح بعودتك يا بابا..» قال مبرراً إن أموراً كثيرة تتصل بحياتهم تنتظره، قالت مطرقة: «ولكن لمتنا لا تعوض..».
يلوذ بصمت، شأنه عندما يواجه ما لا يقدر الرد عليه، يتقدم فى الشارع الرابع صاعداً إلى بدفورد، يقترب من منطقة تتكاثف فيها الأشجار، واجهات البيوت لا تفصح عما وراءها كأنها تخلو من السكان، لا أحد أمامه أو وراءه، يتبع ظله المصابيح المعلقة على اختلاف أنواعها وأماكنها، بدأ الضوء المنبعث منها يتجاوز المصدر النهارى الذى اكتمل غيابه.
مرة أمامه، خلفه، إلى جانبه، من يحاور من؟ من يدور حول من؟ يتوقف ليتبين فإذا به بعيد أكثر مما قدر، يلف، يبطئ ويسرع، يقبل، يدبر، عند نقطة تسبق الناصية التالية أيقن بحلول شىء لم يعرفه، لا مرجعية له عنده، فى البداية ظن أن مصدراً للضوء تبدل أو خفت.
يلتفت، ظله على مسافة، أقل استطالة، أقرب إلى حجمه كأنه موازٍ تماماً رغم الفجوة البادية بينهما التى لم يعرفها من قبل، يتراجع ناحيته، يحاول تقليص المسافة، لكنها تتزايد، يميل إلى الوراء، لا تزال فى ابتعاد، بل إن السرعة تتزايد، لا تأثير لكل ما يصدر عنه، لبريهات بدا وكأن ثباتاً أدركه، غير أنه يفاجأ باتساع الهوة، استمراره فى الابتعاد، تزايد السرعة، يشرع فى الاندفاع، غير أن ثقلاً يتسرب إليه، ينسكب داخله، لم يعد أصلاً، تتزايد كثافته مع استمرار ابتعاد ظله مندمجاً بما يلقاه، ما يتصل به من ظلال أقبلت وتماست.
هوم لس
أمام مدخل القطار، بالضبط فى المواجهة مطعم فلسطينى، يعد الطعمية، والفول، والكنافة بالجبنة، نبهتنى إليه ماجى عندما عادت يوماً تحمل كيساً ورقياً تبدو منه بقع الزيت، قالت إنها سعيدة جداً، مطعم فلسطينى يبيع الطعمية، تطلعت إليها بحنو، الطعام من أركان الذاكرة والحنين إلى الوطن الأول، سعيت إليه، عندما رآنى قال إنه يعرفنى، ملامحى ليست غريبة، ثم قال: آه.. إنه التليفزيون، شاهدتك به، عندئذ نطقت باسمى وقدمت إليه بطاقتى، إننى أقيم عند ابنى وابنتى بعد إجراء جراحة، إنهما يقيمان هنا منذ عدة شهور، هناك فى العمارات الحديثة، قال إن ويليامز برج بها عدد من العرب، غير أنهم متباعدون، لا يعرف الواحد منهم الآخر، معظمهم يمنيون يعملون فى البقالة، إنهم شطار جداً، فى مرة أخرى قال إنه نسى إطلاعى على وجود مصرى بدون مأوى «هوم لِس»، يظهر ويختفى، أحياناً يمارس أعمالاً مختلفة لفترات قصيرة ثم يستأنف الغياب أثناء عودتى، فى الأيام التالية خلال مشيى اليومى بعد الظهر شغلت به، من هو؟، لماذا استقر هنا بدون مأوى، الناس هنا تعرف بعضها، منهم المحتفظ بلغته الأصلية أباً عن جد، لم يخرجوا من المنطقة، خاصة البولنديين، ألم تسألنى إحدى السيدتين اللتين اعترضتا طريقى عما إذا كنت أتحدث البولندية، لم أرهما بعد ذلك، يزعجهما ما يجرى من تطورات سريعة تغير طبيعة المنطقة التى عاش أهلها متضامنين، يحيطون حيواتهم بسياج متين رغم أنهم فى مواجهة مانهاتن تماماً ويصلهم جسر هائل.
اعتدت رؤية الرجال الذين يعيشون بلا مأوى، كذا نساء قليلات، يفترشن الأرصفة، بعضهم إلى جواره كلب ضخم ربما يكلفه أكثر مما ينفقه على نفسه، رأيتهم فى أوروبا، بعضهم أساتذة جامعة، وعلماء مرموقون، هجروا بيوتهم وخرجوا على المجتمع، أى إن أوضاعهم جيدة، إنما انسلاخهم نتاج رؤية، موقف، فى أحد أيام الشتاء، نزلت درجة الحرارة، إلى ما دون الصفر، حتى المياه فى المواسير تجمدت، بمجرد خروجها من خراطيم المطافئ تتحول إلى ثلج، أمرت البلدية بفتح أنفاق المترو المزودة بالتدفئة لإيواء الهوم لس، بينما انتشر متطوعون فى الحدائق، والأماكن الخلوية، والممرات التى تتخلل المبانى يحملون أوعية الحساء الساخن وما تيسر من الزاد، لمحت بعضهم يطعم عجائز أدمنوا الكحول، لا يقدرون على الحركة، فى صباح باكر، حوالى السابعة صباحاً خرجت لإلقاء نظرة على المدينة قبل تحركى إلى المطار، أحرص على معايشة استيقاظ المدن، خروج السكان من مداخل المبانى، فتح المتاجر، المطاعم الصغيرة، تنفرد القاهرة بعربات الفول والكسكس بالسكر، أما نيويورك فالعربات للغذاء ومعظمها يديره مصريون، فى ذلك النهار التصق الجليد بالأرصفة، مشيت بحذر، متمهلاً، الانزلاق ربما يؤدى إلى الكسر، ياه.. كسر قبل التوجه إلى المطار بساعة، ما أخشاه وقوع مكروه فى الغربة خلال وقت حرج، مُشكل صحى، أو فقد الجواز أمام المطار أو داخل إحدى الصالات، تلك بعض من هواجسى.
أمام متجر للملابس الرجالى يتمدد عجوز مفترشاً الجليد، إلى جواره زجاجة كحول، وقفت مائلاً نحوه، يعلو صدره ويهبط بمقدار، يتنفس، لن أنسى ملامحه المتقلصة ونموذج الموديل المرتدى حلة أنيقة رمادية وحذاء يلمع، ثمة صلة ما، أمضى مبتعداً، غير أن هذه الصورة لم تفارقنى، استعدتها مراراً عندما علمت بوجود هوم لس مصرى، كنت أبحث عنه أتفحص الجالسين أمام المحلات، فوق الأرصفة، فى الحديقة الممتدة، أو على الشرافة، مرة رأيت هوم لس زنجياً يقعد أمام الصيدلية تحت العمارة لم يكن معه أى شىء، لا حقيبة ولا زكيبة، لا زجاجة ولا إناء، كان يحدق أمامه بحواس منتبهة، متيقظة غير أن حزناً مسدلاً على ملامحه أقضنى، كان منبئاً، بعد أن تجاوزته رغبت العودة، تقديم شىء ما، الحديث إليه حتى، لكن غربتى تقيم حدوداً غير مرئية، أخشى ردة الفعل، التورط فى خطأ ما، أن أجد نفسى موضع تحقيق، يكمن قدر هائل من العبثية فى الظروف والمواقيت.
لا.. هذا ليس هوم لس، إنه تجسيد وعر للحزن المقيم، مع كل مسافة أقطعها لا يخلو بالى من احتمال المصرى، مشكلة أن عدداً كبيراً من أبناء أمريكا اللاتينية يقيمون هنا، ملامحهم مصرية تماماً، لو مشى أحدهم فى القاهرة لن يخطر ببال أحد أنه أجنبى.
أيام الآحاد يتصاعد الزحام فى شارع بدفورد بدءاً من العاشرة صباحاً عند انتصاف النهار تفيض المقاهى والمطاعم بزبائنها، ويصطف المنتظرون أمام الواجهات فى طوابير منتظمة فى انتظار خلو مكان، فى الشارع سور أزبكية، عدة بائعين للكتب القديمة، لمحت أحدهم، بالتأكيد من ناحيتنا، أعنى صعيدى، توقفت متطلعاً إلى العناوين، لم تبدر منه طرفة، لم تلح أى بادرة اهتمام، ثمة شبه بيننا لم يحرك عنده أى ردة فعل، لمحت كتاباً ضخماً عن فن البورتريه فى أعمال بيكاسو، تناولته متصفحاً باهتمام، منذ حوالى أسبوع زرت معرضاً خصص للبورتريهات التى استلهمها من عشيقته الثانية، مارى تريز، ثمة بورتريهات عديدة لها هنا فى محور خاص يحمل اسمها، اتجهت إليه مباشرة، قلت بالعربية: بكم؟
كأنى لم أقل شيئاً، بل كأنى غير موجود فى مواجهته، معقول أن يكون هو؟، ربما لا يرغب فى مخاطبة من يمت إلى موطنه القديم، سمعت عن مصريين جاءوا وبدلوا الأسماء وحتى الدين، قطعوا كل صلة، انطلقوا بعيداً، لكن صاحب المطعم يعرف أنه مصرى، أكد لى أنه تحدث إليه، عندما سألت بالإنجليزية أجاب بدون أن ينظر إلىّ: عشرة، تأهبت للدفع.
حلّاقة
لأن الإقامة طالت احتجت إلى حلاقة، هاش شعرى وتفوضن، لو أن الأمر منذ ثلاثين عاماً لتركته، لكننى منذ سنوات اعتدت الذهاب إلى حلاق قريب من البيت، قبطى، غير أنه يخفى ذلك، بدءاً من اسمه إلى صمته التام عند عمله، مع أن من صميم المهنة الحديث والثرثرة، مرة واحدة خلا بى عند انصرافى، سأل عما إذا كنت أعرف مسئولاً فى التربية والتعليم، قال إنه قدم لابنه فى حضانة الحدائق لكنهم رفضوه، علم أن الناظر لا يقبل مسيحيين، الحق أننى صدمت، لم أعرف أن الأمور وصلت إلى هذا الحد، قلت إننى سوف أثير الموضوع علناً، سأطرحه على الرأى العام، لمحت دمعاً مطلاً من عينيه، قال إن الناس «دى» إيديها طايلة، يفضل حل الموضوع ودياً، بهدوء، مال إلى الأمام هامساً: ممكن يضرونى، تساءلت: كيف؟ قال باختصار. الولد.. أخاف على الولد.
فارقت صالح متشائماً، مغموماً، ما يجرى خفية مقلق، تخيلت لو أننى هو، يبدو هادئاً، فهم عنى ومنى، ذلك أننى أضيق بوقت الحلاقة منذ أن عرفت الأسطى سيد الذى كان يخشى أن أمزق الورق، مع أننى كنت قارئاً نهماً للصحف والمجلات فى ذلك الوقت، أيضاً الكتب، غير أنه استصغرنى، لا يرد علىّ ذلك إلا وأضيق معتماً، ذكرت ذلك مفصلاً فى الدفتر الخامس، تقلبت عند عدد من الحلاقين، إلى أن استقر حالى مع صالح هذا، لا يستغرق الأمر أكثر من عشر دقائق أو ربع ساعة، إذا احتاج شعر الأذن إلى نتف بالخيط، مؤلم لكنه فعال، هل يستمر الشعر بعد الموت؟ غريب.. لم يخطر لى ذلك من قبل.
ممكن للأيام أن تمر، هنا لا يتطلع أحد إلى الآخرين، رأيت أشكالاً من تصفيف الشعر عجيبة، هذا الزنجى الذى تتدلى ضفائره حتى قاعدة العنق، كلما لمحنى عند البحر أو الشرافة أو فى بدفورد بعد الظهر، ينحنى ضاماً يديه، ملصقاً راحتيه.
«سلام عليكم..».
لم نتبادل إلا التحية، فقط هاتان الكلمتان منه، والانحناءة منى، رغم ذلك فاض منى إليه ود، أذكره كثيراً، هل هو مسلم؟ لا أعرف كان يعلق إلى عنقه تمائم وميداليات معدنية بعضها مكتوب عليه بلغات لا أعرفها، خطر لى أن أسأله عن حلاق قبل سفرى إلى كليفلاند، وبعد عودتى، وطول بقائى أكثر من أى وقت جئت فيه إلى هنا، النقاهة استلزمت ذلك وضبط الصمامين، كنت أتوقف أثناء المشى فجأة، أتساءل بصمتى؟، ما وضعهما هناك فى العمق، بداخلى؟ كيف هما؟ ما علاقتهما بالقلب الأصلى، الطبيعى، فى الجراحة الأولى تفهمت نفرته، احتجاجه لأن أصابع غريبة طالته وآلات مسته، دام ذلك عدة شهور، الآن أجسام غريبة مصاغة من أنسجة حيوانية ومن أشياء أخرى لا أعرفها، لم أعرف حتى هيئة كل منهما، فقط أحتفظ بورقتين صغيرتين لا أدرى من أعطاهما لى، كيف حصلت عليهما؟ سطور توضح اسم المصنع وعنوانه، الرقم البريدى، والمسلسل الخاص بكل منهما، ولماذا أفكر فيما أضيف إلىّ؟ أين الأصل؟ إلى أين ألقوا به بعد اجتثاثه؟ هل احتفظوا به فى إناء ما، فى موضع ما لعرضه على الباحثين، على طلاب العلم؟
عشر سنوات إلى اثنتى عشرة، ربما يتجاوز الوقت ذلك لو حوفظ عليهما؟ لو قلت الانفعالات وجرت السيطرة، غير أن ما يجرى عكس ذلك خاصة مع بدء الأحداث وانغماسى فى إبداء الرأى والجهر بالمواقف المتصلة بالثورة أو تداعياتها، لا أدرى ما سيكون عليه الحال قرب نهاية الصلاحية، كيف سيبدأ التداعى؟ هل سيتوصل البحث والعلم إلى ما ينفح المدة وصلاً جديداً؟ هل سأقلع فجأة قبل الحين، تماماً مثل من ربيانى صغيراً، وحملانى وهناً على وهن، من بعدهما شقيقى علىّ، لا أعرف على من تدور المصائر؟ يشغلنى ذلك، يبدو أن الأمر يتصاعد مع نفاد الرصيد، أخط هذه الحروف، وقد مضى عام وعدة أسابيع، يتزايد وعيى بالنقصان ونفاد الرصيد.
عندما جلست إلى كرسى الحلاقة، بادرت كما يفعل معظم الزبائن التطلع إلى ملامحى، ثمة تغير ما لم ألحظه من قبل، ملامحى أكثر استطالة مقددة، كأنى مومياء أُتقن تحنيطها، مررت بالمحل مرات عند ذهابى إلى الحديقة والعودة، نظيف داخله مقعدان، رجل وامرأة، الرجل ملامحه صينية، المرأة أمريكية لاتينية، يدهشنى التشابه مع المصريين حتى لأوقن بوجود صلة ما فى الزمن العتيق، فضلت هذا على المحل الآخر الذى لا يوجد به إلا مقعد واحد مرفوع على قاعدة خشبية أما الحلاق نفسه فيقف على مقعد بدون مسند، وضع غريب لم أعرفه من قبل، حضر عندى دكان حلاق فى مدينة دوبروفنيك القديمة، نزلتها قبل تفكك يوغسلافيا، رأيت عين ملامح محل الأسطى سيد، المقعد الوثير ذو المسند المتحرك، المرايا، الفرش التقليدية، الأمواس الحادة، المقصات، زجاجات الصابون السائل ومواد التنظيف، أما المرايا فعين الطراز القديم الذى كان يرد من بلجيكا، كأن المكان تجدد هنا، هكذا حال هذا المحل، كثيراً ما أرى منتظرين، هذا العصر لم يقع بصرى على أحد، بمفردها، أحياناً ألمح طفلاً صغيراً، تضمه إلى صدرها، تولى ظهرها إلى الشارع، ترضعه.
عندما عبرت المدخل رحبت مبتسمة، بدت رحبة، هينة، ودودة، متمهلة فى أدائها، قلت إننى أرغب تسوية الشعر فقط، لم أقل ما اعتدت النطق به، الرغبة فى أن يتم الأمر بسرعة، إنما تركت لها الأمر، تابعت هدوءها وحركة أصابعها، رأيت صالح بنظارته الطبية وصمته القبطى، ثمة شىء ما مشترك، غير أن ما تباين بينهما طريقة الإمساك بالشعر، هو يعتمد على المشط، يقص ما زاد عنه، أما البديل عندها فأصابعها تتخلل الشعر، تحوله إلى خصلة نحيلة، تنفى ما يخرج عن حدها، ملمس يدها ينفذ إلى منبت الجذور، حقاً، الأنثى مغايرة حتى فى الحلاقة، رغم دقة ما قامت به فإنها انتهت بسرعة وعندما لاحظت دهشتى، قالت أنت قلق على الكرسى.
كيف عرفت؟ كيف أدركت؟
قالت إنها تتمنى رؤيتى مرة ثانية.
ابتسمت مؤكداً، غير أننى فى المرة التالية تنعمت بابتسامتها المستقبلة لم أعرف مثل ذلك، بدت ناعمة مثل الحناء، كان حضورها مهدئاً لقلق غامض يلزمنى كلما اقترب موعد عودتى، إقلاعى أول نوفمبر، أطول مسافة أقضيها خارج مصر، أسبابى للقدوم إلى المحل عديدة، منها غيابى الذى لا أعرف كم سيطول؟ عندما فرغت أمسكت بالمرآة لتطلعنى على عنقى ومؤخرة دماغى، أومأت شاكراً، تتحرك كأنها تمشى فى مكان يخصنا، لا يرانا أحد عندما تأهبت ترسخ عندى يقين أنه لا يليق الانصراف، الاختفاء المفاجئ، لن أكون جديراً بترحيبها، لأول مرة أنتبه إلى اختفاء الخفق القديم عند وقوع المحنة، أو لواح التوق، ونزول الحنين، هل يرجع ذلك إلى اعتيادى وفراغى من الدهشة؟ أم إلى الوضع الجديد فى صميمى بعد استقرار جزء مصنوع فى الأصول الطبيعية.
قالت بحزن صادق إنها ستفتقدنى.
قلت: لا بد من العودة إلى الوطن، غير أننى سأجىء مرة أخرى.
قالت شيئاً لم أفهمه بالإسبانية، ثم نطقت بالإنجليزية.. لا شىء مثل الوطن، ثم قالت إنها ستنتظر ظهورى.
الحلقات السابقة:
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [8]
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [7]
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [6]
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [5]
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [4]
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [3]
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [2]
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [1]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.