مستقبل وطن يوزع الهدايا على الطلاب في أول يوم دراسي بالأقصر    تخفيض 50 % من رسوم التنازل عن الوحدات والأراضي بأنواعها بالمدن الجديدة    وزير الإسكان: تخفيض 50% من رسوم التنازل عن الوحدات والأراضي بالمدن الجديدة    العاهل الأردني: يجب التوصل لوقف إطلاق النار دائم في غزة    مسار صعب يخوضه رئيس الوزراء الفرنسي .. تحديات بانتظار الحكومة الجديدة    أستاذ علوم سياسية: توسيع الحرب مع حزب الله يعرض تل أبيب لخطر القصف    تشكيل اتحاد جدة المتوقع أمام الهلال في الدوري السعودي| تواجد «بنزيما»    الزمالك يواجه فرق الشباب وديًا استعدادًا لموقعة السوبر الأفريقي    الحالة المرورية بالقاهرة الكبري.. سيولة بشوارع وميادين القاهرة والجيزة    أسعار اللحوم اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    أسعار الاسماك والمأكولات البحرية اليوم في سوق المنيب بالجيزة.. «البلطي» بكام؟    بإجراءات جديدة.. المدارس تستقبل الطلاب في أول أيام العام الدراسي (تفاصيل)    بداية العام الدراسي 2024.. نظافة ووجبات تغذية ولائحة انضباط جديدة    أسعار الذهب اليوم السبت 21-9-2024 في محافظة قنا    مسؤولون أمريكيون: البيت الأبيض يتوقع توسع القتال بين حزب الله وإسرائيل    مجلس الأمن يحذر من التصعيد ويدعو إلى ضبط النفس بلبنان    بدء التصويت في الانتخابات الرئاسية في سريلانكا    بوتين يشكل لجنة لإمداد الجيش الروسي بالمتعاقدين    الطماطم ب 30 جنيها.. أسعار الخضروات والفاكهة في أسواق التجزئة    تقلبات أسعار الذهب في مصر: تقرير شامل لأسعار اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    اليوم.. نهائي بطولة باريس للاسكواش ومصر تسيطر على لقبي الرجال والسيدات    ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز قبل الجولة الخامسة    أسعار الأسماك اليوم السبت 21 سبتمبر في سوق العبور    "مدرسة صفا مدرسة انتباه".. انطلاق العام الدراسي الجديد في بورسعيد - صور    استشاري نفسي: نشعر بالسعادة في فصل الخريف لبطء الحياة بعودة الروتين    انخفاض جديد في درجات الحرارة.. الأرصاد تزف بشرى سارة لمحبي الشتاء    السياحة تشارك في الدورة ال8 للملتقى الدولي لفنون ذوي القدرات الخاصة    هاني فرحات وأنغام يبهران الجمهور البحريني في ليلة رومانسية رفعت شعار كامل العدد    أسرار توت عنخ آمون.. زاهي حواس يتحدث عن مومياء نفرتيتي والكنوز المدفونة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    ما حكم تلف السلعة بعد تمام البيع وتركها أمانة عند البائع؟.. الإفتاء تجيب    الرعاية الصحية: تطبيق أحدث الأساليب الطبية في التشخيص والعلاج    وزير الخارجية: مصر تدعم جهود الحكومة الصومالية الفيدرالية الرامية لتحقيق الأمن ومكافحة الإرهاب    استكمال محاكمة محاسبة في بنك لاتهامها باختلاس 2 مليون جنيه    احتجزه في الحمام وضربه بالقلم.. القصة الكاملة لاعتداء نجل محمد رمضان على طفل    ريم البارودي تعلن انسحابها من مسلسل «جوما» بطولة ميرفت أمين    عاجل.. فيفا يعلن منافسة الأهلي على 3 بطولات قارية في كأس إنتركونتيننتال    حبس متهم مفصول من الطريقة التيجانية بعد اتهامه بالتحرش بسيدة    ضبط 12شخصا من بينهم 3 مصابين في مشاجرتين بالبلينا وجهينة بسوهاج    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    بسمة وهبة تحتفل بزفاف نجلها في إيطاليا (فيديو)    وفاة والدة اللواء محمود توفيق وزير الداخلية    عمرو أديب: بعض مشايخ الصوفية غير أسوياء و ليس لهم علاقة بالدين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    رياضة ½ الليل| مواعيد الإنتركونتينتال.. فوز الزمالك.. تصنيف القطبين.. وإيهاب جلال الغائب الحاضر    موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للموظفين والمدارس (9 أيام عطلات رسمية الشهر المقبل)    محامي يكشف مفاجآت في قضية اتهام صلاح التيجاني بالتحرش    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    أمام أنظار عبد المنعم.. نيس يسحق سانت إيتيان بثمانية أهداف    بدائل متاحة «على أد الإيد»| «ساندوتش المدرسة».. بسعر أقل وفائدة أكثر    ضائقة مادية.. توقعات برج الحمل اليوم 21 سبتمبر 2024    مستشفى قنا العام تسجل "صفر" فى قوائم انتظار القسطرة القلبية لأول مرة    عمرو أديب يطالب الحكومة بالكشف عن أسباب المرض الغامض في أسوان    تعليم الفيوم ينهي استعداداته لاستقبال رياض أطفال المحافظة.. صور    جوميز: الأداء تحسن أمام الشرطة.. وأثق في لاعبي الزمالك قبل السوبر الأفريقي    أكثر شيوعًا لدى كبار السن، أسباب وأعراض إعتام عدسة العين    آية الكرسي: درع الحماية اليومي وفضل قراءتها في الصباح والمساء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [6]
نشر في الوطن يوم 11 - 10 - 2012

منذ عامين، مر الأديب جمال الغيطانى بأخطر لحظات واجهته فى حياته، رغم أنه عرف الأخطار كثيراً زمن الحرب، وفى ظروف أخرى، غير أن الفرق كبير بين خطر يأتى من الخارج، ومداهمة من الداخل، بدأت الأزمة على الهواء مباشرة فى برنامج تليفزيونى، وانتهت فى مستشفى كليفلاند. ذلك الوقوف قرب نقطة العبور إلى الأبدية، وعندما يكون الإنسان أديباً، مبدعاً، مهموماً بالمصير، بالمبدأ والمعاد، فإن الموقف يكون أدق، كان الغيطانى محظوظاً، عبر إلى هناك وعاد ليقص علينا عبر هذه النصوص الفريدة دراما المصير، نصوص جديدة، ليست يوميات، أو سجلات مباشرة؛ لكنها تبدع اللحظات النادرة والحافلة بالرؤى لتضيف صفحات جديدة إلى كتاب الألم الإنسانى.
شرافة
كأنها صيغت له، صممت خصيصاً لتتواءم معه، ليشرف منها على المدينة كلها، ليقف فوق المياه المتدفقة إلى المحيط، لم يعرف الاسم الملائم لها، ليست جسراً، إذ إنها لا تصل ضفتين، ليست حداً لأنها تبدأ من الضفة، وتمتد فوق المياه حوالى مائة متر، هكذا قدر وفيما بعد استوثق بالاستفسار، كان تقديره صحيحاً إنها جزء من الأعمال التكميلية، التى تقوم بها الشركة التى شيدت هذه العمارات الحديثة لكى يسمح ببناء تلك الأبراج، لا بد من بناء هذه العمارات ذات الإيجارات المخفضة للموظفين، للجنود، لمتوسطى الدخل، لا بد من تمهيد حدائق صغيرة منها مساحة خضراء للكلاب، الإضافة التى لفتت نظره وأصبحت مقصده قبل سفره لإجراء الجراحة وبعدها، عندما توارت الأيام وتساوت فى الماضى الذى لا يمكن تغييره أصبح من الصعب عليه التمييز إلا فيما ندر، لا يذكر متى اكتمل الاسم الذى أطلقه عليها: شرّافة، رغم أنها غير مشرعة إلى أعلى، لكَم تأمل هذه الأشكال التى تنتهى بها جدران المساجد والكنائس ثم اكتشف أنها موجودة فى المعابد المصرية القديمة، بعضها مستلهم من زهرة اللوتس أو الزنبق، زهور صريحة من الحجر، أو أشكال متدرجة توحى بالحدود، صاعدة نحو السماء، ومع تردده بالبصر مرات ومرات اكتشف أن الشكل المنحوت يوازيه شكل محفور بالفراغ، زهور من حجر تتعانق مع أخرى من الضوء.. من الهباء.. لولا هذا الفضاء ما كان هذا الامتلاء. ماذا يعنى هذا، أهو رمز للصلة بين الجسد والروح؟ وحدات متساوية تنهى اليابسة وتحدد بداية اللانهائى، يمكن اعتبارها ضفافاً، تجسيداً للحد الفاصل بين الجسد والنفس التى لا ترى وتستعصى على الرصد، إنما تدرك بالهيمان، يتم احتواء الثابت عبر الهجاج الدائم.
مَن دلّه على تلك الشرافة؟
لا يدرى، لكنه يعى جيداً وقوفه عند بدايتها متطلعاً متسولاً كل إجابة، طارحاً الاستفسارات المستعصية، كأن حميماً يفرد ذراعيه مقبلاً عليه، كتلة العمارة المتصلة، المنفصلة على الضفة الأخرى، الأبراج التى تبدو ساكنة، صامتة، رغم أنها تضج بالحياة، تمتد الأرضية المكونة من ألواح خشبية مصقولة، محمولة على أعمدة مغروسة فى المياه، مسورة، على الامتداد تتناثر مقاعد طولية، وأخرى من حديد، صيغت فى أشكال توحى بمحاولة الانفلات، الجزء الأخير يشغله هواة صيد السمك، عندما خطا أول مرة كان الصيف فى أوجه، الكل يرتدى الملابس الخفيفة، لن تروح تلك الفتاة الهندية الملامح من وعيه، ترتدى قميصاً يشى بحمالة صدرها، بنطلون قصير يلوح منه حواف سروالها، تنبطح على وجهها، منفرجة الساقين، تقرأ صفحة ما فى كتاب ما، ليس مثل الأنثى مثير للبهجة، للتعلق بأطراف الدنيا ومركزها معاً، أصغى إلى لهجة هؤلاء الثلاثة، ملامحهم، تركيب أجسادهم مغولية، الرجل والمرأة متماثلان فى الطول، بروز الصدر، الأكتاف العريضة، ابنهما بينهما صامت محدق صوب الماء، اللغة غريبة، ليست روسية، بدهشة رأى شاباً يقبل صاحبه، يمتص شفتيه يتعانقان بحرارة تفوق ما بين الذكر والأنثى، لم يألف ذلك، ثمة خوف غامض يدركه عندما يرى أحدهم، حاول ألا يتجه ببصره صوبهما، فى اليوم الأول رأى الزنجى عندما مشى حتى نهاية الشرافة، تلك التى سيبلغها مرات عديدة يومياً قبل وبعد، أجعد الشعر، غزيره، يرتدى قميصاً كاكياً، بنطلون ينتهى بعد الركبة، لا يعرف لماذا سمى هذا الطراز «برمودا»؟ حزام عريض عسكرى الطراز، عندما اقترب من السور العرضى، نهاية الشرافة، لاحظ أن هذا الأجعد يحدق إليه، عندئذ رفع يده ملامساً موضع القلب منه، اعتاد ذلك منذ أمد، فوجئ به يرد ويده تلامس قلبه أيضاً:
«سلام عليكم».
رد بدهشة، الحق أنه فوجئ، طوال المدة لم يتعدَّ الأمر التحية بملامسة القلب، أو الانحناء قليلاً، ومبادرته التى يرد عليها: «وعليكم السلام» هل يعنى ذلك أنه مسلم؟ لا يمكن أن يسأل إنساناً عن دينه.. إنه متسق مع نفسه، إذ يعتبر الدين أمراً يخص الفرد، علاقة خاصة بين العبد وربه، ذات صباح باكر، لم تبلغ الثامنة بعد، بدأ سيره اليومى جيئة وذهاباً، لم يكن أحد «إلاه»، لم يتجاوز التحية إلى الحوار، فقط إيماءة ولفظ «سلام عليكم» وملامسة القلب، لاحظ ارتداءه سلاسل، وقلادات حول عنقه، على صدره أيقونة ربما للعذراء مريم أو قديسة ما، يجىء ليمضى ساعات فى صيد السمك، أيام يراه فى الصباح الباكر، عندما يعود ليودع الشمس الغاربة ويمعن فى متابعتها يجده، يضع عدة سنانير متجاورة، كل منها مزود بجرس صغير، ينبه إلى تحقق الصيد، فوق الألواح الخشبية صناديق وحقائب تحوى معدات حديثة جداً، مقصات، آلات مختلفة أحجامها وأشكالها، الغريب أن حداثة المعدات لا تتناسب مع حجم الأسماك التى أتيح له رؤية خروجها، كلها صغيرة تقارب البساريا، مر واحدة غمزت سنارة على الجانب الآخر تخص رجلاً يتحدث الإسبانية، فى ويليامزبرج مجموعات منهم، الأمريكان لاتين، أو الإسبانو، منهم الحلاقة التى ستسوى شعره، تنبثق سمكة تتجاوز حجم المسطرة، عريضة عند المنتصف، يميل لونها إلى الأصفر الغامق، تنتفض بقوة، حتى بعد أن وضعها فى الصندوق المبرد، لم يعرف إن كانوا هواة أو محترفين؟ لكن أى فائدة تعود عليهم، لا يتناسب حجم المعدات ونوعيتها مع المحصول الضئيل، هل ينتظرون صيد شىء نادر، هل يتوقعون أمراً؟
اكتفى بملاحظتهم من بعيد، يطرح الأسئلة ويسعى وراء أجوبة افتراضية يصوغها بنفسه، فيما بعد إثر عودته من كليفلاند وبدء طوافه اليومى عبر الشوارع المتوازعة، المتقاطعة، عند بلوغه شارع بدفورد الذى يفيض حيوية، أثناء اتجاهه إلى الطريق الكبير الذى يحد المنطقة قبل بلوغ الجسر، فوجئ بالزنجى يخرج من بوابة بيت من طابقين، مبنى من طوب أحمر عتيق، كثيراً ما تأمل الممر الممتد إلى الداخل، واضح أن البيت تسكنه أسرة واحدة، للبيوت الأقدم خصائص مشتركة منها السلالم المؤدية، كل يتكون من أربع أو خمس درجات، يرتفع طابقين أو ثلاثة، تذكر بعض أحياء أمستردام، ضواحى لندن، إلى هنا جاء مهاجرون من البلدين، ومن بولندا أيضاً، ومن المجر، كل وصل بتراثه، لحظة رؤيته لامس موضع القلب منه، أجاب الآخر بتحية مماثلة تصاحبها ابتسامة مضيئة، اعتاد رؤيته واقفاً فى هذه المنطقة، لم يعرف اسمه، رغم أن كليهما تفاعل بالنظر.
أثناء جلوسه يوماً إلى دكة مصاغة من معدن، اقترب منه ثلاثة ملامحهم آسيوية، صدورهم عريضة، كل منهم يشبه الآخر، بل إنه عندما دقق البصر، كأنهم مستنسخون من بعضهم، بل إنهم ينظرون إلى نفس الجهة، وإذ يطرق أحدهم يتبعه الآخران، فى تمام اللحظة يظهرون عصراً، يتجهون إلى نفس المكان، عندما أقبلوا وكان يجلس إلى نفس الدكة أومأوا إليه. اعتاد أن يرد كل تحية بأقل قدر، أن يبدى الود، داخله خشية غامضة، لم تفارقه، قبل الجراحة أو بعدها، فيما تلاها كان أعمق حذراً، فما زال شق الصدر طرياً، يحتاج إلى ستة شهور ليستقر، حتى ذلك الحين ممنوع عليه حمل ما يزيد على عشرة أرطال، أن يتعامل بحذر مع الآخرين، خاصة فى الطرقات المزدحمة التى يتدافع فيها الخلق، كان يخشى وقوع اعتداء عليه، لو سدد أحدهم لكمة إلى صدره لانفلق، لا يعرف ما يمكن أن يترتب على ذلك، لقد شق قفصه الصدرى مرتين يفصل بينهما أربعة عشر عاماً، يعرف أن ضلوعه مثبتة بسلك قوى، بعد الجراحة طرأ جديد، فلم يستطِع إلى عاداته الأولى، الآن عليه أن يستند إلى جدار، مقعد، وسادة، لا يمكنه المشى أكثر من نصف ساعة، ولا الوقوف بعد خمس عشرة دقيقة، الناس غاية فى اللطف، لكن ثمة متعصبين، قرأ عن راكب طعن سائق عربة باكستانياً مسلماً، لذلك أصبحت خشيته متعددة المصادر، تعاوده نظرة الأشقاء المغوليين أو التتر، تطلعهم إليه المتوازى، المحاذى، لسبب ما تدركه رعدة غامضة، هل ممكن أن يكونوا توائم؟ هل تنجب امرأة أكثر من اثنين؟ ربما.. لا بد أن يعود إلى دائرة المعارف على شبكة الاتصالات، لم يسمعهم يتحدثون الإنجليزية، يتكلمون لغتهم غريبة الإيقاع، ليست الصينية، يعرف إيقاعها من الأغانى التى يسمعها فى بيته القاهرى صباح كل جمعة أو الأيام التى يمكث خلالها، لم يستفسر منهم، يعرف أن التواصل ممكن بالإشارة، منذ خمسة وثلاثين عاماً سافر فى رحلة إلى فارنا المصيف البلغارى، يتوقف والدهشة متمكنة منه، خمسة وثلاثين، لم تكن الأرقام تعنى شيئاً من قبل، كان يصغى إلى نبأ بلوغ فلان الستين أو آخر السبعين، يبدو ذلك بعيداً، قصياً عنه، ها هو يخطو تجاه السبعين، أبوه توفى منذ واحد وثلاثين عاماً، أمه منذ سبعة وعشرين، شقيقه الأصغر مضى عليه الآن عام ونصف، هزيمة يونيو منذ أربعة وأربعين، السبت سادس أكتوبر ثمانية وثلاثين، أحداث ظن أنها لن تنأى، لكنها تبدو قصية الآن، ما أسرع مرور الأيام، بعد بلوغ الثلاثين ينطوى الوقت بإيقاع يفوق ما بين العشرين والثلاثين، من الأربعين إلى الخمسين، من الخمسين إلى الستين، لم يدرِ بالضبط، هل انطواء تلك العقود كأنها إغماضة عين لتزايد المشاغل، وتعاظم المهام، أم أنها خصيصة إنسانية؟ ما من إجابة، من المؤسف أنه سيمضى مخلفاً وراءه أسئلة لا إجابات عليها، فى ميونيخ شارك فى ندوة منذ عشر سنوات حول الزمن، تحدث عن مفهوم المصريين القدماء، لتلك القوة التى لا دافع لها، ولا مؤثر فيها، تدفعنا برفق، بصمت، بنعومة، تدق أجراس غير مرئية منبهة، تتناثر علامات شتى محذرة غير أننا لا ننتبه ولا نعى، نمضى فى غفلة عما يطوينا حتى نقارب الحدود أو يلحقنا داء مقيم أو عابر مؤثر، عندئذ يتردد داخلنا إيقاع الندم على ما جرى التفريط فيه. بعد الندوة جرى نقاش على مائدة العشاء، توجه بالسؤال إلى عالم فيزياء مرشح لجائزة نوبل: هل سيأتى يوم يعرف فيه الإنسان أصل تلك القصة، تساءل الرجل بجدية وقورة: أى قصة؟، أشار بكلتا يديه إلى ما يحيط به، يعنى الوجود ويعنى العدم أيضاً، قال العالم إنه يعتقد إذا حل ذلك اليوم فسيكون أسود أيام الوجود، وربما تكتمل فيه النهاية مع تمام المعرفة.
فى جلسته اليومية بالشرافة أصغى إلى إيقاع ما يمضى وإلى أصداء ما مر، جرى ذلك قبل الجراحة وبعدها، نعود إلى سفره، بلوغه فارنا، تذكره الخياط شبه الأمى، محله فى إحدى عمارات القاهرة القديمة بشارع رمسيس، أفضل من يفصل القمصان ويضبط المقاسات، لاحظ أنه يتحدث إلى كل من يلاقيه، الروسى والتركى والصينى والفرنسى، تتحرك يداه بسرعة راسمة المعانى، مرة كانوا ينزلون درجات محفورة فى مرتفع صخرى، انهمك فى حوار مع شخص آسيوى الملامح، بعد نزولهم سأله عما كانا يتحدثان فيه، قال إن الرجل من جنوب الصين، يتحدث لغة الماندرين، استفسر منه عما إذا كان يتقنها، قال إنه لا يعرف أى لغة، لكن الفطن يمكنه إدراك المعانى، هل نسينا أنه فى البداية لم يكن لغة، كيف عاش الأجداد إذن؟ كل شىء يمكن أن يصل لو عرفنا التعبير بأى طريقة حتى الصمت! تذكر الحوار بينهما أثناء جلوسه إلى جانب المغول الثلاثة، غير أنه لم يشرع.. لم يتخذ المبادرة، ربما بتأثير الخجل القديم، أو لانغماسه وانهماكه فى تفحص حاله، قبل الجراحة كان يمارس المشى فى الصباح الباكر، بعد عودته فى العصر، يبدأ أو ينتهى فى الشرافة. الآن يتداخل عنده من رآهم أو التقاهم قبل وبعد، فى المركز منهم ذلك الزنجى وتحيته، ثم يتوالى الذين مروا به أو مر بهم، فى بداية النهار تظهر الهندية ملتحفة بالسارى، يكشف جزءاً من جسدها، امرأة أربعينية، سرحة القوام، سريعة الخطى، تجىء فى الثامنة تماماً، تظهر فجأة ثم تبدأ المشى، من البداية حتى النهاية، اثنتى عشرة مرة، خطوها غريب، كأنها تحتفظ بمسافة منسوبة بين قدميها والأرض، كأنها تطفو، يتابعها فى حركتها، لم يكن يحصى مرات ذهابها ومجيئها، لكنه يعرف الخطى التى تعنى أنها ستتجه من خلالها إلى الخارج، رغم تركيزه البصرى عليها، فإنها لم تلتفت ناحيته قط، كأنه غير موجود، بعد عودته لم يرَها، مرة نزل مبكراً، تحمل الرياح الباردة التى تهب من ناحية المحيط، يروح ويجىء يشرق ويغرب، إلا أنه يعود إلى تلك اللحظة عندما نزل قبل المغيب بنصف ساعة، إنها المرة الأولى التى يقصد فيها الشرافة بعد الجراحة، لا تزال نبضات ألم تتردد خلال الأويقات التى يكف فيها الممكن عن البث، دوار مفاجئ لا يستغرق إلا ثوانى، يباغته فجأة، هذا جديد عليه، لم يعرفه فى العملية الأولى، لا يذكر إلا اضطرابات نبضات القلب، إسراعها فجأة، توالى خفقات، كمن يقود دراجة، القدمان تبدلان إلى الأمام، فجأة تتخذان الاتجاه المعاكس إلى الخلف، بعد أن أتم مشيه الصباحى، وأثناء خروجه من الطريق القصير الضيق الواقع بين العمارتين، إحداهما لم تكتمل بعد، فجأة لفَّت به الدنيا، مال ليستند إلى سور ممتد يعزل منطقة البناء عن الشارع، شابة قادمة من الناحية الأخرى، لا بد أنها لمحت حركته المفاجئة، أسرعت الخطى إليه متسائلة: هل تحتاج إلى مساعدة؟ كررتها مرتين، تطلع إليها من وضعه المائل مضيقاً عينيه، لن ينسى ملامحها المتناسقة أبداً، قال: شكراً.. شكراً، ماذا لو استمر الدوار؟ ما يخشاه دائماً أياً كان موقعه أو وقته فقدان الوعى، لا يرعبه شىء مثل غيابه بالحواس، الكف عن الرؤية، السمع، اللمس، التنسم، لم يحدث ذلك، لكنه يتحوط للاحتمال، خاصة بعد الجراحة الأولى، دائماً ثمة ما يحمل اسمه وعنوانه، هاتف زوجته، ورقة، بطاقة، لا يتنقل فى الترحال بجواز سفره لكنه يحتفظ بصورة ضوئية للصفحات الأولى، وللتأشيرة الخاصة بدخول البلد المتواجد فيه، وهاتف السفارة أو السفير إذا كان على صلة به، كذلك الجهة الداعية لو أنه فى مهمة، أومأ شاكراً للفتاة التى جزعت حقاً، مستدعياً وصوله مبكراً إلى باريس منذ عدة سنوات، ركب قطار الأنفاق من المطار، فى محطة سان ميشيل كان مضطراً إلى الصعود درجات فى المرحلة الأخيرة، سهر الليل والطيران وثقل الحقيبة أرهقاه، تعثر عند الدرجة الأخيرة، انحنى محاولاً التهدئة، لحقت به فتاة عيناها فسيحتان، ترتدى قميصاً أبيض وبنطلوناً رمادياً، نافرة الصدر، تساءلت عما إذا كان فى حاجة إلى مساعدة، تطلع إليها ممتناً، خجلاً، مدركاً حلول شيخوخته، يسرع الخطى فى الشارع، يصعد الدرج بسرعة، غير أنه مرغماً يهدأ، يتوقف لتهدأ الأنفاس، رغم محو معالم كثيرة من ذاكرته فإنه ما زال يرى الفتاة الباريسية كأنها أمامه، أيضاً تلك النيويوركية التى تسعى وربما تقيم على مقربة من سكن ابنه وابنته، على الشرافة رأى وجوهاً اعتاد بعضها وأخرى لم تتكرر، لمح شابين يتبادلان القُبلات بحرارة تفوق ما بين رجل وامرأة، تجنب النظر رغم فضوله، فى جنوب مانهاتن القرية، يكثر فيها هؤلاء، لمح فى مقهى مجاور لمكتبة يقصدها لشراء كتب الفن رجلين تتماس أصابعهما، لا يتحدثان بل يتنهدان، عصراً لمح فتاة ترتدى فستاناً قصيراً تثب فى الفراغ، يقف اثنان على مقربة، كل منهما يحمل آلة تصوير دقيقة، ليس هما فقط، كثيرون يجيئون لتصوير لقطات إعلانية، من الشرافة يمكن احتواء أهم معالم مانهاتن أو السيتى -المدينة- كما يسميها من يسكن بعيداً عنها، كما يعنيه منها إشرافه على غروب الشمس، تواريها وراء المبانى الشواهق القريبة من المحيط، لا شىء يثير فضوله ويحرك سواكنه مثل المحيط، لحظة إيغاله جواً بعد الشاطئ الإنجليزى أو الأيرلندى، يستسلم للون الأزرق الذى يمتد حتى مشارف اللانهاية، دائماً يولى وجهه تجاه الشاطئ، يتبع موجات الريفرايست، عندما تشرق الشمس يتطلع إليها مرحباً، مرت فوق دياره، وعبرت المحيط أو عبرها هى، حركة كل منهما مرتبطة بالآخر، يرى نفسه بعد سنة، بعد عامين، بعد ثلاثة، إذ يشارف الحد الذى تبلى فيه صمامات القلب معروفة الصلاحية، ماذا سيجرى وقتئذ، كيف تبدأ الآلام؟ أى أعراض تصحبه حتى اكتمال النهاية، قال الطبيب المساعد فى الرعاية محذراً: تذكر.. لن تكون هناك مرة ثالثة، أوصاه بالمشى وتجنب الانفعالات، وتقليل المجهود، فكر عندما سمع: هذا كله مقدور عليه عدا الانفعالات، كيف وأعصابه مثل الأسلاك العارية؟ يعرف أن ثمة ما يبقى من كل حقبة، أو تجربة، ليس شيئاً بالمعنى المادى، إنما إشارة إلى جوهر ما عرفه، كان موقناً أن هذه الشرافة ستصحبه، ستطل من غياهب ذاكرته، ستمثل له دالة على ما مر به هذه الفترة، عصر اليوم الذى عاد فيه من كليفلاند، نزل قاصداً ما اعتاده، الجلوس فوق أحد مقاعدها دانياً إلى قرص الشمس تتدلى هناك، يحاول رصد حركتها، أبراج مانهاتن تدل عليها، غيابها المتمهل يعنى غياب بعض من رصيده الذى لم يعد كثيراً، عندما قطع الطريق الضيق وخطا فوقها توقف عند بداية السور متطلعاً إلى الفراغ، إلى جهة الشمال، حيث يقع المستشفى الذى كانت تعالج فيه رفيقة عمره، تغمض المؤثرات الفاعلة فى مثل هذه اللحظات، تماماً مثل لحظة خروجه من المستشفى محمولاً على مقعد متحرك يدفعه زنجى لا يعرفه، عندما احتوى الفراغ البادى عبر الواجهة الزجاجية الضخمة توزعت ملامحه على الكون الذى لا يعرفه، صار بصره حاوياً ومحوى، ذلك الوجود، الأحجار، الأشجار، الفراغات العلى مثله تماماً، جاءت وستتفرق، كيف؟ متى؟ لا يقدر على التساؤل، شهق بعينيه، منهما بزغت دموع حارقة لم يعرفها من قبل، لا غناء لا حادثة، لا قول يمكن اعتباره دافعاً، حال لم يعرفه من قبل، إنه النشيج، مجهول الأسباب، أوغل إليه مستسلماً، جزعت ابنته: تبكى يا بابا؟ لم يجبها، إنما استمر، لم يكن ممكناً الكف، لا من داخله ولا من خارجه، على الشرافة تكرر ذلك عندما رفع وجهه تجاه اللاشىء محاولاً عناق الوجود غير الموجود، اندلعت الحرقة المصاحبة للقطر، قادمة من الأغوار السحيقة، غير مدفوعة بأى سبب، غير مستثارة بأى عنصر، كم من لحظات نادرة تبقى مستعصية على الفهم والكشف، يستعيدها مراراً يتفحصها، يقلبها ذات اليمين وذات الشمال، يوشك غير أنه يرتد إلى حيث بدأ، سماء صافية، موج متدفق، نسمات متوالية، عمارة شاهقة، مدينة مبحرة، قارب هائل يحوى كل هذه الحيوات، طيور عابرة صوب الجنوب، إزاء هذا كله يتجسد سؤال: ما هذا؟
على الشرافة أصغى إلى إيقاع الحياة داخله، لا يبدأ النبض إلا من أنثى، الحادية عشرة صباحاً والنهار يضوى، ومجمل ضجيج المدينة بكل ما فيها يصله خافتاً، كأنه منبعث من جرم آخر، فرغ من مشيه ذهاباً وجيئة، جلس على مقعد تشكل من معدن فضى، لمحها قادمة، يجرى بين يديها طفلان، تنحنى لتحاور حركتهما، تسبقهما ثم ترتد كأنها فى ملعب، ثبت وجودها فى المكان كله، فارهة، نضرة، تكوينها مثمر، حاض على الانخلاع والترحال، ما بين صدرها وحوضها ومقدم فخذيها عمار وتلقين، أما قوامها فعين الانسجام والدوام، بمقدمها ارتجف داخله دبيب تجاهها، تملى منها واستزاد، شمله القيام فأيقن أنه ما زال حياً يسعى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.