كان الصباح ما زال مبكرًا، حين أخذت الجموع طريقها إلى ميدان التحرير، واستمر التدفق على الميدان من كل صوب واتجاه، ويضيق المكان على سعته، حتى تزحم كل شرفة أو نافذة تطل عليه، ويغلق كل شارع أو طريق يؤدي إليه. إنها صورة من أجمل ملامح مصر، وواحدة من معالمها، كالنيل والنخيل والهرم، وتجسيد لأجمل صفتها، الشموخ والعراقة والإيمان. وشارك في وداع ابنة مصر، بنت أرضها الطيبة مندوب عن رئيس الجمهورية أنور السادات، وعدد كبير من الشخصيات العامة والفنانين. الميدان كله تأهب واستعد لوداع "الست"، وفي داخل المسجد حان موعد تحرك الموكب الكبير، ويقف عشرات من الصحفيين والمراسلين والمصورين لينقلوا إلى أسماع العالم كله وأبصاره وقائع اليوم المشهود. أجواء مزدحمة وساخنة، والآهات الأخيرة تخرج من الصدور، والموكب الكبير يبدأ أولى خطاه من مسجد عمر مكرم إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة، موكب رسمي يكتنفه الإجلال والتسليم بإرادة الخالق سبحانه وتعالى. "لا إله إلا الله.. إنا لله وإنا إليه راجعون" تعالت بها الأصوات في قلب ميدان التحرير، ويمضي موكب الخلود في طريقه، وحين تطل أم كلثوم على ميدان التحرير تتلاطم أمواج البشر، وكل من في الميدان يود أن يقترب من جثمانها يلمسه بيديه، يملي عينيه بنظرة أخيرة، يلقي عليها نظرة الوداع. إنها فنانة الشعب التي أعطت، وظلت تعطي وقدَّمت، فبدَّلت بسخاء الملايين. أعطيت التعليمات إلى الصفوف الأولى من الموسيقى، وحاملي باقات الزهور بالإسراع في الخطوة، ولكن كان الحب أقوى من أن توقفه سدود، ويندفع الآلاف ويحولون الميدان كله إلى مشهد من مشاهد التاريخ الذي لا يتكرر، إنه الشعب الوفي الأصيل، إنه الشعب يرد الجميل. أكثر من نصف قرن من الزمان وصوتها ينطلق من قلب مصر، وجهدها كله بجانب نضال شعبها، الذي أحبها بغير حدود، وخرج إلى ميدان التحرير ليودعها وتودعه فكثيرا ما سمع منها، وها هي بدورها تسمع منها الوداع. ورفع النعش فوق أعناق الآلاف، كقارب خشبي في محيط من البشر، ويحاول الموكب المهيب أن يشق طريقه إلى شارع طلعت حرب،. أكثر من عشرة آلاف ضابط وجندي من رجال الشرطة، كان يحاولون أن يفصحوا للموكب طريقًا، وأن يحددوا مساره واتجاهه، ولكن سرعان ما ذاب الجميع في حزن عميق، وأمام الحزن والحب اختلط الجميع، واندفع الجميع، وآلاف جديدة تلقي بنفسها في بحر الحب وفيض الوفاء. وحين يدخل الموكب بالمشقة والصعوبة والعناء شارع صبري أبو علم تصر الجماهير على أن تحمل بنفسها أم كلثوم إلى مثواها الأخير. وعند جامع جاركس حيث كان مقررًا أن ينتهي سير الجنازة، كانت كل الشوارع قد سدت، وكل الطرق لم يعد فيها موضع قدم، ويمضي الموكب حتى وصل إلى مسجد الإمام الحسين وفي أرجائه الطاهرة، ارتفعت صلوات الآلاف على روحها "الست" الطاهرة، قبل أن تُحمل إلى حيث مصير كل إنسان. وهنا يطوي التاريخ صفحة حياة "كوكب الشرق"، وستبقى أم كلثوم خالدة في ضمير شعب ووجدان أمة.