تخيّل روعة أن يحبك إنسان دون أن تراك عيناه.. يفصل بينك وبينه أكثر من ألف عام.. لكنه يشعر بوجودك ويبكى شوقاً إليك عبر حواجز الزمان والمكان.. وقد منحك لقب حبيبه (أو تدرون من أحبابى.. قوم يأتون من بعدى يؤمنون بى ولم يرونى).. قلبه لا يعرف سوى الحب.. ذلك الباكى فى جنازة اليهودى حزناً على نفس فلتت منه إلى النار.. وقد اختارك فى لحظة لأن تكون أنت منحته الإلهية.. تنازل عن تحقيق أمنية اختصه بها الله، واختار الشفاعة لك.. فتضرّع إلى الخالق العظيم «أمتى.. أمتى».. إنه ذلك الأُمى الفقير راعى الغنم الذى غيّر تاريخ العالم.. ومات وهو لا يملك سوى قنطين (ردائين) ودرع مرهونة عند يهودى.. وقد خُيّر فى امتلاك جبل أُُحد ذهباً، ففضّل أن يُحشر فى زمرة المساكين.. ورغم أنه طبقاً لقوانين الطبيعة، لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه، فإنه أصبح غير ذلك طبقاً لقوانين اللعبة. ففعل رسومات تافهة من مجلة نكرة فى إحدى حوارى باريس توزع بضعة آلاف نسخة، يقابله رد فعل مبالغ فيه بقتل عشوائى لعشرات البشر، ويكون رد الفعل غير مضاد فى الاتجاه، لكنه طعنة فى قلب الإسلام بعد أن: 1- تحولت شرذمة متطاولة على الرسول، إلى أبطال عالميين. 2- زادت إصدارات الجريدة الساقطة من بضعة آلاف إلى عشرات الملايين، وزادت معها دائرة انتشار الإساءة إلى الرسول. 3- تشويه باطل لدين المحبة والتسامح والعدل. 4- إشعال نار الكراهية والاضطهاد والفتنة وسلسال الثأر الذى لا نهاية له. فهل لنا أن نطوّر دفاعاتنا أمام تلك الحرب.. كما قالها الفاروق قديماً (أميتوا الباطل بتجاهله)، وكما للحروب خطط، فليكن لتجاهلنا أيضاً. 1- عدم تناقل تلك الإساءات بأى شكل ولا من باب العلم أو إرضاءً لغريزة حب الاستطلاع حتى نميتها، (فلقد كتبت قصائد هجاء فى الرسول، لكنها ماتت بتجاهلها). 2- عدم التورّط فى نقاشات تتيح للآخر إهانة الرسول والإسلام أكثر، ولنتخل عن الجدل العقيم، ولنترك المحاورات لأهل العلم والفتوى. 3- إعلان التبرؤ من كل ما يرتكبه الجهلاء من قتل للأنفس وتدمير أماكن عبادة أو إساءة إلى الآخرين، فأين فضل الإسلام فى الترفُّع عن الهمجية. 4- أن نكون نحن مرآة لديننا، يرى فينا العالم صدق الفعل والعمل والقول. 5- أن نُعلى كرامة الدين بالتعفُّف عن التعامل مع المجاهرين بإهانته ومقاطعتهم سلمياً، بناءً على دراسة علمية واقتصادية، حتى لا تضر بدلاً من أن تفيد، واستخدام بدائل هى دائماً متاحة لمن يسعى ولو بقليل من التضحية. ولنا فى الأزمة الأوكرانية وغيرها مثل لوسائل الضغط الاقتصادية. وأخيراً لن يحترمنا العالم حتى نتحد ونتوقف عن التناحر والتقاتل ومحاولة تغيير قناعات الآخر وإثبات خطئه.. وكأن فكرة التعايش والوصول إلى نقاط التقاء خيار غير مطروح.. مع أن العبرة ليست بتطابق الآراء (والذى يكاد يكون مستحيلاً عملياً) العبرة باحتواء الاختلاف.. فالنُّبل ليس ما تمارسه مع من يتفق معك.. ولكن هو ما نقوم به تجاه من نختلف معهم.. ونحن بحاجة إلى تكوين إرادة جماعية هى التى ستُفرز بديلاً.. وتلهم بطريق.. فاليهود أكثر الناس جدلاً.. ومع ذلك اتحدوا وكوّنوا دولة الأكثر تفوّقاً فى معظم مناحى العلم والإدارة.. وكان وجود عدو مشترك ملهماً وحافزاً يجمعهم على تجاهل خلافاتهم أو إرجائها.. ونحن لدينا أعداء كثيرة متأهبة، فلنجعل كيدهم فى نحورهم.. ولنتوقف عن خذلان رسولنا وإراقة دمائه بين القبائل بالفرقة والتناحر بعدما عصمه الله -وهو فقير وحيد- من الإهدار.. فهل نعجز الآن ونحن أمة المليار؟؟