جلستُ أتحدث مع الطبيب، قبل بدء العلاج، عن زيارتى إلى مدينته لوس أنجلوس، إذ تركها قبل أكثر من خمسة عشر عاماً واستقر فى دبى. قُلتُ له مازحاً إننى سأنتقل للعيش فى كاليفورنيا عندما أتقاعد، فضحك وقال «أما أنا فسأتقاعد هنا». خرجتُ من عنده وأنا أفكر فى حوارنا، وتساءلتُ: لماذا أريد العيش فى مدينته ويريد العيش فى مدينتى؟ كلتا المدينتين جميلة وتقدم الكثير لزوارها والقاطنين بها، لكن هنالك شيئاً دفع كلاً منا للبحث خارج حدود حياته. قد يكون الرزق ما يدفع الناس للترحال، لكن ليس فى حالتى أنا والطبيب، هنالك شىء أكثر إلحاحاً، أكثر أهمية.. إنها رغبة صادقة فى البحث. وقد يسأل أحدكم: عن ماذا؟ لا أدرى، وربما تكمن روعة هذه الرغبة فى أننا لا ندرى لماذا نبحث! بعض الأماكن التى نزورها تصدمنا بقوة، يَخنقنا الذهول عندما نغوص فى أعماقها، كفلورنسا الجميلة التى أعتبرها أجمل مدينة رأيتها فى حياتى. شعرتُ عندما دخلتها لأول مرة أننى أمشى بين صفحات كتاب تاريخ قديم، حتى كدتُ أدوس على أرضها بحذر لكى لا أفسد الأزقة الضيقة التى قيل لى إن كثيراً منها لم يتغير منذ 400 عام. يا إلهى، قُلتُ، أربعمائة عام لم تُغادر رائحة التاريخ ولم تُمحَ بصماته من تلك الأزقة؟ لم أستطع أن أستوعب كيف يدوس الناس بإطارات سياراتهم على الأحجار نفسها التى وطأتها حوافر خيول الميديتشى، وميكيافيلى، ودانتى، وجاليليو، ومايكل أنجلو ودافنشى، دون أن يُفكّروا فيهم! تساءلتُ مرة وأنا أحتسى القهوة فى أحد تلك الأزقة: هل فكر دافنشى يوماً بأن هناك من سيأتى من صحراء الربع الخالى بعد مئات الأعوام ليزور مدينته ويرى لوحاته؟ ماذا لو راوده ذلك الخاطر، وهو المعروف برموزه وإشاراته التى يدسّها فى زوايا أعماله وخلف لوحاته، هل كان سيكتب لى شيئاً؟ ربما، ولكنه كان كثير الترحال، شأنه فى ذلك شأن المتسائلين، كجبران وابن عربى، الذين يظنون أن فى كل مكان جديد إجابةً ما، ثم لا يحزنون عندما يُرهقهم ذلك المكان بأسئلة جديدة، دون إجابات، ولا حتى إشارات.. حينها تستحق الحياة مزيداً من التعب والترحال والمغادرة. فى إحدى مراحل حياتى كنتُ أتردد على برلين للعمل، وكنتُ فى طريق العودة أقضى ليلة فى ميونخ، المدينة الكئيبة، لسبب واحد: القهوة والقراءة. ففى آخر شارع المارين بلاتز يوجد مقهى خجول ينزوى خلف كنيسة كبيرة، تُقدم فيه قهوة رائعة جداً. المكان غير مزدحم، وعلى الرصيف المقابل حَجَز عازف بسيط مكاناً قَصِيّا ليعزف موسيقاه للمتذوقين وليس للمحسنين، وكلما انتهى من مقطوعة ما صفقنا له ثم ينتقل إلى مقطوعة أخرى دون أن يأبه بنا. لا أحد يسألك هناك ماذا تقرأ، لا أحد يبتسم أو يغضب، تشعر بأنك أنت فقط من يتنفس فى ذلك المكان. عندما أتذكره الآن، وقد مضت سنوات دون أن أزوره، أجد تفاصيله تملأ ذاكرتى حتى تنضح حواسى بها. أذكر جيداً رائحة الزقاق، طعم القهوة، درجة الحرارة، الأصوات التى نسمعها دون أن نُلقى لها بالاً وكأنها «كورال» موسيقى، كصراخ الأطفال، أو ضحكات العشاق، أو أصوات مخالب الكلاب وهى تمشى على الحجر. ما زلتُ أتذكر ملمس مقبض باب المقهى، وزن كرسيّه، سُمْك الكوب، رائحة الخبز.. كل ذلك كان يدفعنى للرحيل، للتجريب، للمغامرة أحياناً. كل تلك التفاصيل هى أشكال مختلفة من الأسئلة التى لا نريد الإجابة عليها، نريد فقط أن نرحل ونُفتّش. نحتاج إلى الرحيل حتى تكون لحياتنا قيمة، حتى نجد شيئاً نحكى عنه، نُضحك به الآخرين، نكذب عليهم، نُبكيهم، نشوّقهم، ندهشهم. نحتاج إلى الرحيل حتى ننسى كل شىء ونتذكر أننا نستطيع أن نكون سعداء، وحتى لا ننسى أننا ما زلنا نملك الفرصة لنكون من نريد. نرحل بحثاً عن إجابات، تخيل عالماً دون أسئلة! يا إلهى، لا بد أنه سيكون مُملاً وبارداً كشتاء إنجلترا السخيف. إن عالماً دون إجابات أفضل بكثير من عالم دون أسئلة. الرحيل هو السؤال، لذلك نمارسه حتى نجد إجابة، أو شيئاً يشبهها. كثيرون منا يتولّون مسئوليات كثيرة، يعتلون مناصب حكومية أو يملكون شركات خاصة. كلهم يحتاجون إلى الرحيل حتى لا يفقدوا الطفل الذى يعيش فى داخلهم، ذلك المُتسائل اللحوح المشاغب. أو ليستعيدوا جِيناتهم المُراهقة التى غادرتهم منذ زمن. أتعرفون متى يُغادر الفرح؟ عندما نعتقد بأننا وصلنا إلى الإجابة الصحيحة، حينها فقط، نُمزّق تذاكرنا، نُغلق عقولنا، نُطفئ قلوبنا، ونبقى دون عودة.