قُدِّر لى -فى الأسبوع الماضى- أن أنزل ضيفاً على المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بمقرها فى تونس العاصمة، بدعوة من مديرها العام الدكتور عبدالله حمد محارب ومديرة الثقافة بها الدكتورة حياة القرمازى؛ امرأة عربية مثقفة تدهشك بذكائها وثقافتها وقوة حضورها. ولتونس إشعاع ثقافى باهر كاف لتبرير صواب اختيارها عاصمةً ومقراً ل«الأليكسو»؛ المنظمة المسئولة عن حماية الثقافة العربية وصون تراثها. وتونس فى وجدان مثقف قادم من صعيد مصر هى «أرض الهلالية». فى فضائها الفسيح الممتد بين صعيد مصر وتونس ترددت أصداء «سيرتهم» الأولى وغنى الناس «تغربيتهم» وفى هذا الفضاء المترامى الأطراف تعقب الشاعر المبدع عبدالرحمن الأبنودى «سيرة بنى هلال» وصَبَّر وثابر فى جمعها من الرقاع البالية ومن صدور المنشدين المخضرمين. وبخلاف الأصول المشتركة لقبائل الهمامية والهلالية التى ينحدر من أصلابها تونسيون ومصريون حتى اليوم، أهدتنا تونس ثلاث شتلات ثقافية غرسها مثمر طيب؛ أهدتنا قاضى قضاة مصر العلامة خالد الذكر عبدالرحمن بن خلدون صاحب «المقدمة» التى أسست لعلم الاجتماع الحديث. وأهدتنا أول إمام للأزهر هو الشيخ خضر حسين. وثالث الثلاثة شاعر شعراء العامية المصرية بيرم التونسى. ألهذا السبب الثقافى وجد «سؤال» الثورة التونسية فى 14 يناير 2011 «جوابه» الفورى فى مصر فى 25 يناير 2011؟! على أية حال جمعتنا -فى تونس- ونفراً من المثقفين العرب المرموقين «مائدة مستديرة» دعت لها «الأليكسو»، أعد لها وأحسن تنظيمها متابع دؤوب لنهر الثقافة العربية، خبير بدروبها هو الأستاذ عبدالله ولد بابكر. كان موضوع المائدة «الدراسات المستقبلية فى الوطن العربى: الحال والمآل». ثلاثة أيام قضيناها حول «المائدة المستديرة» ندرس ونبحث عن «توطين» ثقافة الدراسات المستقبلية فى بيئتنا العربية وفى مناهج تفكيرنا بديلاً عن المحاولات المحمومة لإحياء الثقافة السلفية بكل تنويعاتها الدينية والسياسية، تلك الثقافة التى سدت الشرايين المغذية للعقل العربى فأصابه الضمور! خارج القاعة التى دارت فيها رحى المناقشة حول ثقافة الدراسات المستقبلية فى فندق «أفريقيا» العتيق فى صرة العاصمة التونسية، وفى صدر شارعها الأشهر، شارع الحبيب بورقيبة، كان مستقبل من نوع آخر يتشكل، هو مستقبل تونس ذاتها، وكان حراك سياسى حى يجرى على قدم وساق. كانت أعيننا وعقولنا حائرة بين مشهدين؛ مشهد الحوار -داخل الفندق- حول صيغ استنبات وتوطين ثقافة الدراسات المستقبلية فى الوطن العربى، ومشهد الجدل الصاخب والعراك حامى الوطيس -خارج الفندق- بين القوى السياسية التونسية؛ أحزاباً ونخباً ومجتمعاً مدنياً وإعلاماً، جميعها أخذت أهبة الاستعداد لاستحقاقين سياسيين كبيرين ومتتابعين، يُقدر أن يصنعا المستقبل التونسى لأبعد من عمرهما الدستورى؛ الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية. كانت ندوة الأليكسو هى «بؤرة» اهتمامنا، وعلى «هامشها» كنا نسترق السمع والبصر حيناً بعد حين لنتابع الحراك السياسى الذى أخذ يضخ دماء العافية فى أوصال المجتمع التونسى الناهض فوق جواد ثورته. واللافت فى تونس أن الحديث عن الانتخابات الرئاسية يَجب كل حديث، ويتوارى إلى جانبها الاهتمام بالانتخابات التشريعية رغم أهمية البرلمان فى «الترويكا» التونسية الحاكمة، والصلاحيات الواسعة التى أعطاها له الدستور الجديد. بالطبع هناك تهافت لافت للنظر على الترشح للرئاسية يستوى فيه مَنّ ينعمون اليوم بدفء السلطة ومَنّ لم يطلهم غطاؤها الدافئ، سياسيون وغير سياسيين، فلول وذيول لنظام بن على وغير فلول من القوى الجديدة أو القديمة، ارتفع عددهم فى نهاية «الماراثون» إلى سبعين مترشحاً. وهو تهافت حار فى تفسيره المحللون وتعددت حوله الأسباب. أوجَّه تلك الأسباب وأوسعها انتشاراً هو أن مجتمعاتنا العربية ما زالت قريبة عهد بالحكم الأوليجاركى وهيمنة ثقافة الحاكم الفرعون والملك الفرد والسلطان الأوحد ذات الجذور الضاربة فى الثقافة العربية، بينما لا تزال ثقافة المشاركة والبرلمان جديدة على تقاليدنا السياسية العربية، فضلاً عما يمثله «الرئيس» من رمز لسيادة الدولة، رغم أن الدستور التونسى الجديد «ضيق» صلاحيات الرئيس و«وسع» صلاحيات البرلمان، ووضع «مركز الثقل» السياسى فى «قصر القصبة» مقر الحكومة، وليس فى «قصر قرطاج» مقر الرئيس. ويرى بعضهم أن هذا التهافت على منصب الرئيس إن هو إلا «حالة مرضية و«هوس» مجنون بالسلطة انفجر بعد كبت دام أكثر من 50 عاماً. ويبدو أنه سلوك ملازم للثورات، فقد عرفنا هذا التهافت فى مصر فى أول انتخابات رئاسية بعد ثورة 25 يناير 2011. أعجبنى تعليق ساخر لكاتب تونسى، يتهكم فيه على هذه «التخمة» من المترشحين لمنصب الرئيس. يقول الكاتب الساخر آدم فتحى «قد نرى فى عدد المترشحين إلى الرئاسية جزءاً من مكاسب الثورة، بعد أن كان مجرد التفكير فى الاقتراب من هذا المنصب جريمة مس بالذات الملكية! رأى -فى نظر الكاتب- لا يخلو من وجاهة لو اقتصر الأمر على خمسة مترشحين أو ستة من الوجوه النضالية «القديمة» أو «الجديدة» التى يحق لها أن تُرشح أو تترشح، إلا أن عدد المترشحين تجاوز المعقول إلى درجة «المسخرة» حتى كدنا لا نبتعد عن عصر «جمهوريات الموز» إلا كى ندشن عصر «جمهوريات الحمص»! وإذا جاز للكاتب أن يستعير وصفاً بنكهة مصرية لقال عصر «جمهوريات الليمون»! فالعدد -كما يقول المصريون- فى الليمون، كناية عن «العدد الكبير» من المترشحين. بعيداً عن التفاصيل الدقيقة المشتتة للانتباه، كنت مشغولاً -فى أيامى التونسية القليلة- بالصورة الكلية لمجتمع تونسى صاعد بثقة وتؤدة على دَرَج المستقبل، ناضج للتجربة، يجاهد، وهو يصعد، قيوده الداخلية والإقليمية، لا ينظر وراءه إلا بقدر ما يتعلم ويستفيد، ولا يلتفت حواليه إلا بقدر ما يحفظ توازنه ويضبط إيقاعه!