يكاد معظم المصريين يجمعون على أن أيام زمان كانت أفضل من الوقت الحالى، وأن مصر كانت جميلة ورائعة وليس لها نظير من حيث النظافة وحسن التنسيق، وأنها أيام الملكية كانت حاجة آخر «ألاجة» وتِشرِح النفس، بل اعتقد الكثيرون أن القاهرة انتخبت كأجمل مدينة عام 1925 (قد بحثت كثيراً، وكلى أمل أن أعثر على أى مصدر موثق لهذا الزعم، لكنى لم أجد على الإطلاق). أنا، كغيرى من المصريين، لدىّ ضعف خاص تجاه «الأبيض والأسود»، من أفلام وصور، وحتى الجرائد والمجلات القديمة، شعور بحنين غامض إلى حياة لم أعشها قط بالطبع، بحكم مولدى فى مطلع السبعينات، بعد الاكتشاف المذهل للأفلام والصور الملونة، والبنطلونات «التشارلستون»، داهية لا ترجعها! قطعاً صور القاهرة القديمة تظهر مدينة جميلة، تتبختر فيها عربات تجرها خيول مطهمة، ونساء ورجال غاية فى الأناقة يجلسون على مقاهيها اللطيفة، يعزف فيها الموسيقيون موسيقى خفيفة عذبة... لكن، عزيزى القارئ.. أرجوك أن تتريث قليلاً قبل أن تنجرف فى «نوستالجيا» الحنين إلى الماضى.. هل هذه الصور الجميلة التى نسجت صورة مصر فى مخيلتك هى مصر -كل مصر- حقاً؟ هل بر مصر أيام الملكية بأكمله فعلاً كان جنة؟ لماذا، إذن، تحولت القاهرة والإسكندرية، وغيرها من المدن الجميلة، من حلم إلى كابوس؟ الإجابة تكمن فى أن كل الصور اللطيفة للأماكن الجميلة بالقاهرة والإسكندرية (وبعض المدن الكبرى الأخرى) لم تعكس إلا زاوية ضيقة لمَواطن الجمال بمصر، فى حين رزح جموع المصريين تحت فقر وعوز شديدين سببهما تجاهل الدولة آنذاك (وحتى الآن باستثناء عصر عبدالناصر) لمواطنيها فى القرى والنجوع، ذلك الفقر والعوز لم تلتقطه الكاميرات التى هى بالطبع تبحث عن مَواطن الجمال لا القبح، ولعلك سمعت عن مشروع «مكافحة الحفاء» الذى سعى -دون جدوى- إلى توفير نعال لقطاع كبير من المصريين. انسدت أمام المصريين البسطاء سبل العيش فى قراهم ومدنهم الصغيرة التى لا يوجد بها فرص للعمل، ولا الحد الأدنى من المؤسسات التى تكفل حداً أدنى من الحياة الآدمية، من مدارس ومستشفيات، ثم مسارح ودور سينما ومتنزهات، الأمر الذى كان متوافراً فقط فى المدن الكبرى، مما دفع بالكثير منهم إلى الهجرة إلى تلك المدن ساعين خلف لقمة العيش وفرص أفضل لتعليم وعلاج أطفالهم وذويهم، واستمرت موجات الهجرة من القرى إلى المدن لعقود، مما أدى إلى اكتظاظ تلك المدن بسكان لا تستطيع مقدراتها الخدمية استيعابهم، فانهارت الخدمات الصحية والمرورية والثقافية لتلك المدن تحت الضغط غير الطبيعى لتلك الموجات الريفية الساعية لنيل حقها فى مكان يكفل لها ولأولادها الحد الأدنى من الحياة الكريمة. أعتقد أن الغالبية الساحقة من المصريين يفضلون العيش إلى جوار ذويهم، إن توافرت لهم فرص العيش الكريم فى قراهم، وأن تجاهل الريف سواء فى الخدمات الأساسية أو الترفيهية، وفى دعم وتشجيع مشروعات صناعية وزراعية كبيرة توفر فرص عمل كبيرة للمصريين فى قراهم ومدنهم الصغيرة، أدى بنا إلى ما نحن فيه من تكدس وازدحام وقبح وانهيارات الخدمات والمرافق، واستمرار التجاهل سوف يؤدى بنا إلى كارثة لا تحمد عقباها.