«نفسى أعيش فى مكان نظيف.. الزبالة فى كل مكان.. لا الحكومة عايزة البلد نظيفة.. ولا الناس فارقة معاهم.. وكل ما تكلم واحد يقول آهى عيشة وخلاص.. وكأن الحياة عقوبة نقضيها حتى نموت.. مفيش استمتاع بحاجة.. مفيش خيال ولا إبداع ولا حب للعيشة.. شعب وفّق أوضاعه على الحد الأدنى.. يصحى الصبح على دعوة واحدة: ربنا يعدى اليوم على خير.. وينام بالليل خائفًا من أزمات اليوم التالى.. ولأنه يحلم بالحد الأدنى لم يحصل عليه، وأصبح يعيش فى القاع.. يعنى فى الزبالة»! كلمات عفوية قالها لى مواطن أوقفنى فى الشارع، معلقًا على حملة «المصرى اليوم»: من أجل قاهرة نظيفة.. الرجل لم يقل لى أكثر من ذلك، ثم انصرف.. ولكن كلماته بدت وكأنها تشريح دقيق لحالة شعب لا يحب الحياة.. فالحياة لدى الشعوب الأخرى هى كل شىء وأى شىء.. الإنسان يدرك أن للحياة جمالاً لابد أن يأخذ منه نصيبًا.. وأن المكان الذى يعيش فيه جزء من آدميته، وانعكاس واضح لملامحه.. جمال المكان يفجّر مساحات الجمال داخل الإنسان.. الاثنان ينصهران ويمتزجان، تفاعل كيميائى خلقه الله فى البشر والحجر.. لذا كان طبيعيًا أن يقول لى أحد الفرنسيين ذات مرة «إن المكان فى باريس يحب الناس.. وإن الناس يعتبرون الشارع ركنًا من بيوتهم»! الرجل الغاضب من «قذارة» القاهرة لا يعرف - قطعًا - أن الباريسيين، وغيرهم فى معظم بلدان العالم، ودعوا مسألة «الزبالة» منذ قرون عديدة.. والسبب - بمنتهى البساطة - أنهم اتفقوا على ثابت واحد فى الحياة «أن الحكومة مكلفة بخدمتهم وإلا فلتذهب إلى الجحيم.. وأن كل مواطن مسؤول عن جمال الحياة وإلا فالموت أرحم.. والموت عندهم لحظة سوف تأتى حتمًا، ولكن مادامت الدماء فى العروق فلابد أن نستمتع بالحياة، ونجعلها كل صباح أكثر جمالاً وبهاءً»! لم أقل للرجل الغاضب إن الشعب المصرى يكره الحياة.. ربما لأن الحزن مدفون فى العمق دائمًا.. وربما لأن من يجلسون على هرم السلطة لا يريدون له أن يشعر لحظة بالجمال.. شخصيًا أرى أن ثمة علاقة حميمية بين الجمال والديمقراطية.. بين الشارع والسلطة.. بين السلوك البشرى والسلوك السلطوى.. خمسون عامًا أو يزيد.. أبدعت السلطة الحاكمة فى إقناع الشعب بأن البلد لمن يملكه.. للجالس على الكرسى الأوحد.. ولمن حوله غالبًا.. البلد بلد الحكومة.. الشارع لهم وليس لنا.. نظرية مصرية خالصة «عيشة الحد الأدنى».. «عيشة الكفاف».. «عيشة وسط الزبالة والحفر والمطبات».. و«عيشة فى طوابير العيش ومعارك البوتاجاز، وتقفيصة قبيحة أطلقوا عليها زيفًا مترو الأنفاق»! غير أن الصورة الحقيقة ليست بهذا القدر من القتامة.. فثمة رغبة دفينة داخل كل منا فى حياة أفضل.. والدليل أن أحدًا فى «المصرى اليوم» لم يتوقع للحظة واحدة هذا القدر من الحماس والاستجابة من المواطنين لحملة «من أجل قاهرة نظيفة».. آلاف الاتصالات الهاتفية يوميًا للإبلاغ عن أماكن تجمع القمامة والمسؤولين عنها.. ومئات الرسائل على البريد الإلكترونى بالصور.. كل مواطن يحمل كاميرا أو هاتفًا محمولاً لرصد أماكن القبح، ومواطن الإهمال.. هذا هو الشعب المصرى الحقيقى الذى نبحث عنه منذ سنوات طويلة.. هذا هو المواطن الذى يحلم بحياة جميلة ومكان نظيف.. فمن أجله وحده سوف تستمر حملتنا ضد القبح، ومن أجله - أيضًا - سوف نتبع هذه الحملة بحملات أخرى ضد مواطن الخلل والفساد فى مصر. .. من حق كل مصرى أن يستمتع بالحياة.. وفرض عين على النظام الحاكم أن يتخلى عن نظرية «الحد الأدنى من العيشة».. وأن يستجيب ل«الحياة»، لأن الأمم تنهار، إذا تساوى لديها الموت مع الحياة! [email protected]