أمام معبر «رأس جدير» على الحدود الليبية التونسية وقف المصريون فى انتظار الرحيل، هاربين من موت يطاردهم لا فكاك منه سوى بالهرب، وعلى باب السفارة الليبية بالزمالك وقف مصريون آخرون لم تهمهم الحرب الدائرة هناك، ولم يسأل أحدهم عن الخطر الذى يحدق بزملائه فى طرابلس وبنغازى ومصراته، فالخطر فى القاهرة والبدرشين وقنا وأسوان لا يختلف، والموت بالرصاص فى شوارع طرابلس لن يختلف عن الموت جوعاً فى شوارع المحروسة. رغم ما تناقلته وسائل الإعلام من التهديدات التى تحيط بالمصريين فى ليبيا، ورغم تحذيرات الخارجية المصرية من السفر إلى الأراضى الليبية، ورغم كل الصراخ والبكاء فى الفضائيات المصرية على النازحين من ليبيا، كان هناك بكاء من نوع آخر فى شارع الصالح أيوب بالزمالك، فهناك وقف الحاج ضاحى يضرب كفاً بكف على أيام لن تعود مرة أخرى: «يا ريتنى ما كنت خدت الإجازة، أدينى مش عارف أرجع والإقامة قرّبت تخلص ومش عارف أجددها على الفاضى ولا هتروح علىّ». بات البقاء فى المنيا ضرباً من المستحيل، فمنذ قدومه فى 15 يونيو لقضاء إجازته بين أسرته لم يكن يتصور أن «القروش» القليلة التى عاد بها ستكون آخر ما يملك من أيام الشقاء: «عندى خمس عيال وفيروس سى وكنت بتهرب من الكشف الطبى واشتغل هناك الشغلانة اللى حيلتى، فلاح، ما اعرفش غيرها، ومصر ماعادش فيها طين نفلح فيه». لا يخشى ضاحى من الموت، لكن جُلّ خشيته من «بهدلة العيال»، بحسب قوله.. «مش عايز اتبهدل وابهدل العيال معايا، لكن لو على الموت أدينا هنموت فى أى حتة واللى كاتبه ربنا هنشوفه». ضاحى المقبل من المنيا للسؤال عن التأشيرة وموعد فتح الطيران لليبيا لم يختلف عن محمد المراسى وصديقه أحمد المقبلين من طنطا.. «حطينا كل اللى حيلتنا فى التأشيرة ورُحنا السنة اللى فاتت، الشقا هناك زى هنا، بس الفلوس هناك أحسن». عام ونصف العام قضاها الصديقان فى ليبيا عانا فيها مر الغربة وقلة الحيلة أمام أصحاب الدار: «كل يوم والتانى كنا بنسمع حالة سطو مسلح على البيوت بتاعة المصريين يسرقوا فيها الفلوس والموبايلات ماكانش فيه أمان، بس كانت الأمور بتعدى ونضحك على نفسينا ونقول ما هى مصر مليانة بلاوى برضه بس مفيهاش فلوس». بأى ثمن يحاول أحمد ومحمد العودة إلى ليبيا و«3 خراطيش سجائر» شارفت على الانتهاء، وفارق السعر فى السجائر المستوردة بين ليبيا ومصر لن يستطيع الشابان دفعه: «السجائر المستوردة هناك ب10 جنيه مصرى والأكل والشرب أرخص من مصر بكتير، ودخلنا فى الشهر 20 ألف جنيه مصرى نقعد فى مصر ليه بقى؟!». الإصرار على العودة من قبَل الشابين اللذين لم تتجاوز أعمارهما الثلاثين عاماً يوشى بحالة من الاطمئنان حول ما يدور هناك: «فيه أصدقاء لينا هناك بعيد عن طرابلس وبنغازى ومصراتة ومطمنينا على الأحوال، واحنا لو رُحنا هنبعد عن الأماكن دى». منذ قرابة 20 عاماً أصيب الحاج عبدالنبى جنيدى ب«داء السفر»، فشد الرحال إلى الصحراء الليبية، اختار أن يعيش فيها قريباً من الحدود التونسية، حاول مراراً أن يبنى أسرة هناك كما أسرته التى ما زالت تعيش فى البدرشين بالجيزة ولكن للأسف «الليبيات لا يتزوجن المصريين». صدمته الجملة فقرر ألا يطلب مرة أخرى، عاد فى إجازته السنوية إلى مصر، قضى أياماً سرعان ما انتهت، حزم حقائبه ثم سافر مودعاً إلى موطنه الثانى، ذهب للمطار ثم خرج منه عائداً بحقائبه إلى السفارة الليبية فى القاهرة «مفيش طيران والتذكرة اللى حاجزها راحت علىّ والتأشيرة النهارده آخر يوم ليها».. «الأعمار بيد الله»، هكذا يقول الرجل الذى بلغ 55 عاماً رافضاً أن يبقى فى مصر: «هنخاف من إيه؟! الفقر اللى هنا أشد من السلاح اللى هناك، واهو كله موت». بشرة سمراء ميّزتهم عن القابعين أمام باب السفارة الليبية فى انتظار «تأشيرة الخروج»، لكن هذه المرة ليست بحثاً عن عمل أو رزق لن يأتى، الشقيقة الكبرى لأمل سلامة «على وش ولادة ولازم أروح أنا وأمى عشانها». الزيارة التى تم الترتيب لها منذ 3 أشهر تأجلت إلى أجل غير مسمى وأوضحت أمل التى تنتظر شقيقتها فى القاهرة: «جيت عشان آخد الختم على كارت الزيارة اللى معايا، واحد ابن حلال فى السفارة قال لى انتى هتروحى فين؟ ليبيا على وش حرب أهلية، هتروحى مش هترجعى إذا فضلتى عايشة أصلاً». ما إن أنهت أمل وزوجها سليم وطفلهما «محسن» سؤالهما داخل السفارة حتى حادثتها شقيقتها من بنغازى: «ما تجيش يا أمل.. أنا بقفل الشنط وجاية». صراخ وبكاء على الجانب الآخر من الهاتف ومحاولة لتهدئتها من شقيقتها الصغرى: «بيدخلوا علينا البيوت، وبنتى كانت هتتخطف، خلاص مابقاش فيه أمان إنى أقعد هنا يوم واحد». «هناك تأثر شديد فى عدد التأشيرات التى تخرج من السفارة بعد الأحداث الراهنة».. يتحدث القنصل الليبى بالقاهرة، عبدالرزاق أبوعجيلة الأخضر، مؤكداً أن أعداد التأشيرات التى تمنحها السفارة بلغت 250 تأشيرة يومياً بعد أن كانت تصل إلى 600 تأشيرة أحياناً أو 1000، مضيفاً أن الأحداث التى تجرى فى ليبيا لا تدور فى أنحاء ليبيا المختلفة، لكنها متركزة فى طرابلس وبنغازى، ومساحة ليبيا الشاسعة تسمح بالعيش الآمن فيها ما دام الجميع يلتزمون بالتعليمات الأمنية. القنصل الليبى اعتبر ما حدث على الحدود الليبية التونسية أمراً ضخّمه الإعلام المصرى، مؤكداً أن المصريين لاقوا معاملة حسنة من الجانب الليبى الذى وفر كل الخدمات على طول الطرق من طرابلس إلى رأس جدير، مضيفاً: «توصلنا لاتفاق مع إدارة الجوازات الليبية يُسمح بمقتضاه لأى مصرى بالعودة لمصر حتى وإن لم يكن معه جواز سفر، ويكفى أن يتعرف عليه اثنان من رفاقه المصريين».