حظى قرض صندوق النقد لمصر باهتمام واسع تركز على آثاره الاقتصادية، التى وصلت إلى حد التحذير من ثورة جياع بسبب شروط الصندوق. ولكن يبدو لى أن آثار قبول الإخوان للقرض على الثقافة السياسية للمصريين، قد تكون أكثر أهمية بكثير من آثاره الاقتصادية؛ فقد فوجئ من صوتوا للإخوان بطلبهم للقرض، ليس فقط بسبب رفضهم له قبل أسابيع، أيام حكومة الجنزورى، (حلال على الإخوان، حرام على غيرهم من المصريين!!)، ولكن لأن الموقف الشائع عن الإخوان هو اعتباره ربا فاحشا محرما. من شأن التحول المفاجئ فى الموقف الإخوانى إزاء القرض -وغيره من القضايا- أن يسقط الخريطة السياسية المبسطة التى نجح الإخوان فى تسويقها لجماهيرهم طوال السنوات الماضية: الإسلاميون الذين سيطبقون شرع الله فى جانب، والعلمانيون المعادون لشرع الله فى جانب آخر. كشف الموقف الأخير للناس أنه من الخطأ المسارعة بتكفير من يوافق على قرض بفائدة فى ظروف محددة، وإلا كان من الواجب تكفير الإخوان، وتكفير بعض مشايخ السلفية ممن تأرجحوا فى الفتوى؛ كالشيخ ياسر البرهامى الذى غير فتواه ثلاث مرات خلال ثلاثة شهور(حرام ثم حلال ثم حرام). كيف سيؤثر اتهام الإخوان بتوظيف الدين من أجل مصلحتهم السياسية، واتهام الشيخ برهامى لهم بالكذب (السياسى) عليه (مصاريف إدارية)، على مصداقيتهم وجماهيريتهم فى الانتخابات المقبلة؟ كيف سيؤثر التأرجح المتكرر لمشايخ السلفيين فى فتاواهم على مصداقيتهم السياسية والدينية؟ إذا برر بعض مريديهم هذا التأرجح بمقولة: «الرجوع إلى الحق فضيلة»، فإن قطاعاً آخر من المصريين يعدونه نوعاً من الإهمال وعدم الشعور بالمسئولية الدينية والسياسية للفتوى من قبل واحد من أكثر الشيوخ اتزاناً ومسئولية، فما بالنا بغيره ممن لا يتأخرون عن الإفتاء بالفتنة والإخراج من الملة صباح مساء؟ قبل ثورة 25 يناير، وقبل وصول الإسلاميين إلى الحكم، كان المسلمون من المصريين يقلقون من تعدد الفتاوى، يريدون فتوى واحدة واضحة ثابتة تجاه كل مسألة. بعد الثورة، سيدرك هؤلاء أن الإسلام ليس رأياً واحداً، بل إن عظمته تكمن فى وجود مجال واسع للفهم والتفسير والتأويل فى الواقعة الواحدة، وأن تعدد الفتاوى وارد، بل ومرغوب، والأهم أنه ليس من حق مسلم احتكار الرأى وتكفير الآخر. أخيرا، كشفت أزمة «القرض» فارق الخبرة السياسية وفارق التوجه الفكرى بين السلفيين والإخوان، على عكس الخطاب السلفى الذى يسوده الرفض القاطع لأى قرض له فوائد ثابتة. تفتح الخبرة السياسية الإخوانية الباب لقدر من المرونة فى الموقف؛ حيث صرح المرشد السابق مهدى عاكف قبل سنوات بأن أمر الفوائد المصرفية «متروك للفقهاء وقد اختلفوا فيه.. أريد أن أقول للناس، ما يطمئن إليه قلبك فلتذهب إليه لأن الفقهاء اختلفوا فيه». وتعكس مثل هذه المواقف وجود توجه جدى بين بعض قيادات الإخوان -فى مواجهة قيادات أخرى متشددة- لتحقيق التوازن بين الفقه وبين متطلبات المصلحة الاقتصادية و(السياسية) للبلاد، واختيار أنسب الفتاوى، وأقلها إثارة وإرباكاً للأوضاع الاقتصادية. ولكن ردود الأفعال الرافضة بين قواعد الإخوان والسلفيين لمثل هذه المواقف البراجماتية المرنة، تؤكد أن المستقبل مرهون فى نهاية الأمر بطبيعة التكوين الفكرى الأساسى لهذه الجماعات، فهل ستنجح عملية تطوير الخطاب الدينى والسياسى للقواعد بعد أن تورط الإسلاميون فى مسئولية الحكم واتخاذ القرار، أم أن الفشل سيكون مصيرها؟ وكيف ستكون صورة صراع الفتاوى المرتقب بين الإخوان والسلفيين مع كل قرار صعب تقتضيه ظروف الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى خلال المرحلة المقبلة؟