تتزايد الإضرابات العمالية يوماً بعد الآخر، وتتعدد أسبابها، ولا تقتصر على العمال وحدهم بل تمتد إلى قطاعات أخرى كالمعلمين والأطباء والطلاب وتتعدد الآراء فى وسائل الإعلام حول هذه الإضرابات، حيث يتهم البعض المضربين بأنهم يلحقون بالبلد خسارة كبيره، بينما يرى البعض الآخر أن الحكومة هى المسئولة عن هذه الخسائر لأنها لا تتعامل مع الإضرابات بأسلوب سليم.. وقبل أن ننحاز لهذا الطرف أو ذاك، دعونا ننظر أولاً إلى المشكلة من زاوية أخرى تساعدنا على فهم ما يحدث وتحديد أبعاد المشكلة بما يمكننا من طرح حلول لها تجنب المجتمع أى خسارة. لم يتوقف عمال مصر عن استخدام حقهم فى الإضراب السلمى حتى فى أسوأ الظروف وشهدت مصر موجات من الإضرابات فى فترات عديدة فى النصف الثانى من الأربعينات والنصف الأول من السبعينات وفى منتصف الثمانينات، واتخذت ضدهم إجراءات أمنية، وصدرت ضد بعضهم أحكام قضائية، ولكن ذلك لم يمنعهم من مواصلة النضال من أجل الحصول على حقوقهم، وبعد ثورة 25 يناير، ارتفع سقف التطلعات لحصول المصريين على حقوقهم، تصوروا أن دماء الشهداء الزكية لما يقرب من ألف شهيد وتضحيات أكثر من عشرة آلاف مصاب هما ضمان أكيد وثمن غالٍ دفعه المصريون من أجل تحصين حرياتهم وحصولهم على حقوقهم دون عائق، ولكن غياب قيادة للثورة حرمها من الاستيلاء على السلطة، فأدارت المرحلة الانتقالية مؤسسات وأجهزة من النظام القديم امتنعت عن الوفاء بمطالب الشعب المصرى فى العدالة الاجتماعية، وغياب أى إنجاز حقيقى فى هذا الصدد أصاب المصريين بخيبة أمل شديدة، ولأن تجربة التعامل مع السلطة الجديدة أكدت لهم أنها لا تتخذ قراراً إلا بعد ضغوط شديدة، فلم يعد أمامهم إلا استخدام أسلوب الضغط للحصول على حقوقهم، ولم تكن هناك حكومات قادرة على إطلاق مبادرات أو التحرك مبكراً لاستيعاب هذه الضغوط والتعامل معها بكفاءة، ولما كانت أوضاع العاملين فى مصر وفئات عديدة تقوم على الظلم الاجتماعى ولا تسعفهم دخولهم لتلبية احتياجات أسرهم إلى الحد الذى دفع الطبيب الشاب مصطفى البحيرى إلى الإضراب عن الطعام فى نقابة الأطباء لأن مرتبه لا يكفى لشراء بامبرز لطفله الوليد، ونجحت بعض الإضرابات فى تحقيق نتائج فعلية مما شجع الآخرين على مواصلة هذا النهج. المشكلة إذن هى أن معظم المصريين يعانون من أوضاع غير عادلة، فى الوقت الذى تغيب فيه الحكومة تقريباً عن التنبه مبكراً للإضرابات ولا تستطيع بناء جسور للثقة بينها وبينهم وظهرت قوات الأمن من جديد فيما يبدو للمصريين اتجاهاً للقمع كما حدث مع طلاب جامعة النيل وعمال النقل العام بالقاهرة. والسؤال الآن هو: كيف يمكن مواجهة هذه المشكلة؟ هل هناك حل لها؟ وما هذا الحل؟ نحن فى أشد الحاجة إلى سياسة جديدة تتبعها الحكومة فى التعامل مع المشكلات تقوم على المبادرة بحيث تشكل لجاناً تضم ممثلين للوزارات المختصة والنقابات العمالية، تنتقل هذه اللجان للمواقع التى توجد مؤشرات أن العاملين بها يعانون مشاكل طرحت على المسئولين ولم يستجيبوا لها وأن هناك ما يشير إلى أنهم على وشك القيام بإضراب تتعرف اللجان على مشاكلهم والحلول المقترحة وتدرس هذه المشاكل مع إدارة الشركة أو المؤسسة وتحديد ما يمكن تنفيذه فوراً وما يحتاج لوقت بحيث يكون تنفيذ المطالب الممكنة أساساً لبناء الثقة مع العمال فيقبلون جدولة باقى المطالب على فترات زمنية مناسبة، هذه المبادرة ممكنة ولا تتطلب من المسئولين سوى الاهتمام بالتحركات العمالية قبل الإضراب، وسيكون هذا الإجراء أشبه بامتلاك جهاز للإنذار يمكن الدولة من الحيلولة دون تفاقم المشاكل وتحولها إلى أزمة، وما حدث مع طلاب جامعة النيل الذين لجأوا إلى كبار المسئولين لحل مشكلتهم على امتداد عام كامل دون جدوى فلم يعد أمامهم سوى الإضراب، نفس الحال مع عمال النقل العام. فهل تستمع الحكومة هذه المرة لصوت العقل وتستخدم سياسة المبادرة لحل مشاكل حقيقية لن يتوقف أصحابها عن النضال من أجلها؟.